“غرفة أبي” لعبده وازن والبحث عن زمن غائب
بين السيرة والرواية، يمضي الشاعر عبده وازن في نصه ” غرفة أبي” ليستكمل ما بدأه في ” قلب مفتوح” الصادر عام 2010. وفي كلا النصين ثمة مواجهة مع الذاكرة عبر فكرة الغياب الحاضرة في مراجعة الوعي، ففي ” قلب مفتوح” يحضر هاجس الموت والغياب من جراء عملية جراحية قام بها الكاتب، تؤدي به للتفكير بالعلاقة الثنائية بين الموت والحياة.. هذه العلاقة تحضر بشكل متواز في ” غرفة أبي”، فالأب الذي ضمخ الحياة بغيابه يسيطر هاجس رحيله على حياة الابن، ويقرر في لحظة ما مواجهة الماضي، استعادته، استحضاره، والكتابة عنه.. هكذا يبدأ النص عبر علبة خشبية، في خزانة الأب الراحل، مملوءة صور وأوراق وحكايات.
اختار الكاتب أن يضع على غلاف روايته عبارة ( رواية سير ذاتية)، وفي انتماء النص لهذا النوع من الكتابة ثمة تأكيد على أهمية التحديد في أنه ينفصل عن كونه سيرة، كما أنه ليس رواية وفق الشروط الروائية المتعارف عليها للرواية. نحن إذن أمام نص يستخدم وسائل تعبيرية موجودة في كتابة السيرة والرواية، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفن الروائي يمتلك مرونة في تضمين “السيرة الذاتية” أجواء الرواية، بأسلوب واضح وصريح وممتع في آن واحد، وكأن الكاتب يقوم في نصه بعملية حلول بين رواية حقيقية معاشة ( روايته الخاصة)، بدل رواية أخرى مفترضة أو متخيلة، فالنص لن يتردد في استخدام الخيال السردي، ليحكي ما حدث من وجهة نظر السارد، إذ رغم اعتبار النص ” سيري” فإن التساؤلات تظل مطروحة عن مدى غياب الخيال، أو حضوره في ذكريات تعود أحياناً لمراحل الطفولة الأولى أو الشباب.
هذا النوع من السرد يطلق عليه ” سيرة روائية” بحيث تشمل جزءاً من السيرة الذاتية المكتوبة بأسلوب روائي؛ مع مراعاة ” أن كتابة السيرة الذاتية هي فن الذاكرة الأولى لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها، صراحة وعلى نحو مباشر، مسترجعة هذه الحياة في امتدادها الدال ، أو في وقت بعينه من أوقات هذا الامتداد له مغزاه الخاص وذلك من منظور لحظة حاسمة من لحظات التحول الجدي في عمر هذه الأنا(1).
لكن يمكن القول أن ” السيرة الروائية”- كما يرى بعض النقاد- هي نوع من الفن السردي الذي يضم في صفحاته دلالات سردية خاصة بالرواية، ودلالات أخرى يمكن اعتبارها من مزايا السيرة الذاتية. بيد أن معظم الأعمال السير- ذاتية، نجد فيها طغيانا للسرد الذاتي- السيري المحكوم للأنا، أكثر مما هو جنوحا نحو السرد الروائي، كما أن حضور اسم العلم في السيرة الذاتية يُعتبر موضوع مركزي،حوله يدور الحكي وعليه تقدم التجربة على أنها سيرة روائية ، وفي النص الذي بين أيدينا غرفة أبي يتوفر هذا العنصر الدال والحاسم حين يقول الكاتب: ” الوليد الثالث كان أنا، الصبي الأول في الأسرة، وكانت أمي نذرتني قبل أن تحمل بي إلى القديس عبدا وهو قديس من بلاد فارس…هكذا كان لابد أن أسمى باسم هذا القديس، لكن اسمي حمل الواو في آخره عوض الألف، فأصبحت عبدو”.ص 33
لا يستخدم الكاتب ذاكرته هنا ليسرد تجارباً عرفها أو عايشها، بقدر ما يسعى عامداً إلى الحديث عن ذاته، عبر استحضار ” الأنا” وعلاقتها بالآخر، وإن كان الآخر هنا هو الأب، فهو يتحول إلى مرآة تعكس مواطن مفصلية في تكون الوعي، بل في تكوين العلاقة مع العالم ككل، سواء كان هذا العالم الصغير المكون من الأسرة والمدرسة، والأصدقاء والجيران، أو العالم الأشمل الذي سيحضر في النص بأشكال شتى منها العلاقة مع مدينة بيروت، والتغيرات التي ستفرضها الحروب المتتالية، ومدى انعكاس هذه التغيرات على رؤية الأمس بأنه أجمل وأكثر براءة وعفوية، الأمس ألوانه واضحة إنه بالأسود والأبيض، أما الحاضر فوجود الألوان اللامنتهية تُفقد المرء قدرته على التمييز بينها، أكثر مما تجعله قادراً على تذوق جمالياتها. تناقض الأبيض والأسود أظهر جمال الماضي، وتعدد ألوان الحاضر كشف سرعة التحول العصري الزائف.
* * *
يقف عبدو وازن في ” غرفة أبي”2 على تخوم مراجعة زمن مضى، يتأمل في تسارع سنوات العمر، ويراجع العلاقة مع الوقت الآني عبر استحضار رواية ” البطء” لميلان كونديرا، محللا مضمون الرواية وارتباطه بالزمن. ويعتبر وازن أن علاقة الأجداد مع الزمن أفضل من علاقة الأحفاد معه، فالجيل المعاصر ينتمي لزمن مفقود، غير ممسوك أبداً، يقول : ” كان أجدادنا يصنعون أزمنتهم، أما نحن فبتنا كالرهائن، تحت رحمة الزمن الذي يصنعنا هو”ص196
البحث عن الزمن في ” غرفة أبي” يتعلق بالأب الغائب، استعان الكاتب بجملة نوفاليس ” لا يشعر المرء بالأمان إلا في غرفة أبيه” ومن خلال هذه الجملة يستعيد ذكريات المكان ” الغرفة” وذكريات صاحبها ” الأب”، هذا الوقوف الذي يمارسه الكاتب من منظور اللحظة الآنية يظل متماساً مع حالة حنين تطغى على النص وتتمظهر في أكثر من موضع، لكنه حنين مجرد من الميلودراما يغوص في التأمل، مع عبارات إنسانية بالغة الصدق والدلالة على الحالة المراد البوح عنها، كأن يقول : “كانوا يصفون الأب برتاج الباب. كنت أحب هذا التشبيه. كان بابنا بلا رتاج مثل حياتنا نحن وأمي”ص 47.
أو أن يقول: ” كنت أعجب من الذين يكرهون آباءهم كراهية مطلقة، فلا يجدون فيهم قبساً من عطف أو حنان. هؤلاء لا يكرهون الأب الذي ولدهم فقط بل يكرهون فكرة الأبوة. الأب هو السلطة التي يجب الانقلاب عليها، الأب هو التاريخ المشبع بالدم الذي تجب مواجهته، الأب هو الوحش المختبئ في ثوب راهب. هكذا كان هؤلاء يتخيلون آباءهم” ص 50.
تستدعي هذه العبارات رواية ” الأب والابن” التي نُشرت في عام 1907 حيث يكشف الروائي البريطاني إدموند جوس طبيعة علاقته مع أبيه، وإن بدت هذه الرواية أكثر تركيزاً على التساؤلات الفكرية والفلسفية في العلاقة مع الدين، خاصة مع شيوع أفكار داروين في تلك الحقبة، فإن بؤرة السرد فيها ترتكز أيضاً على طبيعة العلاقة والرؤية للأب، في نص “سيري” محكوم في مرجعيته إلى السرد الذاتي.وإن كانت فكرة الدين أيضاً والعلاقة مع الله، لا تغيب عن نص ” غرفة أبي” كما سنرى.
الزمن ودلالاته
يحضر الزمن أيضاً، كمحور أساسي لانطلاق السرد، وهذا نجد دلالاته منذ العبارة الأولى، بما فيها من مفردات زمنية دالة، يقول : “كنت أتصفح دفاتري القديمة التي اعتدت العودة إليها مرات في العام، مسترجعاً الذكريات لعلها الأحب إلي”ص7. فالاسترجاع الذي يمارسه الكاتب عبر العودة للدفاتر القديمة، لم يقتصر على قراءة جمل وعبارات في دفاتر اصفرت أوراقها، بل إن فعل القراءة هنا، يرتبط ككل بالبحث عن زمن آخر، هو زمن الأب الراحل، مع أن الأب هنا ليس غائباً فحسب بل مجهول تماماً في عيني طفل غاب والده وهو في الثالثة من عمره فلم يعرفه، ولم يذكر تفاصيله إلا عبر ما سمعه عنه من ذكريات أفراد الأسرة، وكأنه باستعادة الأب الذي لم يعرفه يحاول عبر الكتابة أن يعيد تشكيل ملامح طفولة حملها ذاك الغياب خواء ظل حاضراً على مدار السنوات اللاحقة حتى بعد أن تجاوز الكاتب الخمسين من عمره.لكن الفقد غير المباح به للآخرين ظل يكبر ويكبر، حتى لم يعد يليق به الصمت فكانت الحكاية عبر الكتابة لمواجهة الذات قبل مواجهة الأب.
ولعل ارتباط السيرة بالزمن، يعتبر تيمة في رواية السيرة الذاتية، وتجلت في الأدب في نصوص عدة، أبرزها “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، وحين نقف أمامها كنموذج للسيرة الروائية العالمية سنجدها تتحدث عن قيمة الزمن وتفلته من يد الإنسان، والسعي المستمر للإمساك بلحظات معينة نسترجع عبرها ذاكرتنا.وهنا يبدو الاسترجاع حاضراً على مدار النص، في صيغ مختلفة، بعضها يحمل العتاب، أو التأمل، أو الإحساس باليتم والفقد، وبالمسؤولية أيضاً عبر تحميل الذات قدرا من الوعي يتجاوز مرحلتي الطفولة والشباب، عبوراً نحو الكهولة، وما فيها من استرجاع للماضي، حيث المفارقة التي يركز عليها الكاتب هو وصوله سن الخمسين، وموت الأب في سن الثامنة والأربعين، فمن منهما أكبر سناً؟ كيف تُستبدل الصورة ليكون الابن هو الأكبر في عدد السنوات، وفي مساحة الآلام والمسرّات أيضاً.
تجليات الحضور والغياب
في هذه السيرة الروائية يحاور الكاتب نفسه كأنه هاملت، وحيداً على شرفة قصره الوهمي، يبحث عن إجابات لتساؤلاته، ويبحث عن صور الآباء في الأدب، في المرويات، وفي النصوص التي أحبها، متوقفاً عند صراع الأب والابن في رواية ” المراهق” لدوستويفسكي، وكيف انحاز دوستويفسكي إلى الابن في لحظات الألم؛ ثم تستوقفه رواية ” حقيبة أبي” لأورهان باموك، التي تنطوي أيضاً على أسرار الأب الخبيئة في تلك الحقيبة، أيضاً رواية ” امتداح الخالة” ليوسا،وكتاب “حب أول” للكاتب “صموئيل بيكيت”،روايات كثيرة طاردت مخيلة وازن في العلاقة بين الأب والابن، إلا أن العلاقة الأكثر تعقيداً بين الأب والابن –كما يرى- هي علاقة المسيح مع أبيه، يقول : ” هل كان له أب واحد أم أبوان؟ أب سماوي طالما ناجاه، وأب أرضي، من لحم ودم لم يذكره البتة وكأنه نسيه، حتى عند الصليب لم يحضر الأب الأرضي الذي كان يُدعى يوسف، بل حضرت الأم…لم أستطع يا أبي أن أفهم المسيح إلا ابناً،أي إنساناً. إلغاء إنسانية المسيح هو إلغاء لجوهر التجربة التي عاشها.”ص 63-62.
إلى جانب الرؤية الفلسفية العميقة للفقرة السابقة، فإنها تنطوي أيضاً على تساؤلات حول مدلولات الأبوة كعلاقة اجتماعية وعاطفية بين الأب وابنه، فإذا كانت الأمومة علاقة يقينية ثابتة بحكم كونها بيولوجية التكوين، حيث من المستحيل إنكار العلاقة بين الأم والابن، فإن الأبوة تحضر كعلاقة اجتماعية أكثر مما هي موثقة بيولوجياً. العلاقة بين الأب والابن تنشأ بالتدريج عبر المعاش اليومي، وليس نتيجة ارتباط بيولوجي.الأب هو الكيان الحامي للأسرة، الكيان القوي الذي تستند إليه العائلة، وغيابه يؤدي إلى زعزعة قوية في هذه الركينة، من هنا يعيش الأبناء في النظام الأبوي عند افتقادهم للأب حالة يُتم أبدية، لا سبيل للشفاء منها، حتى بعد تجاوز الطفولة والصبا، بل حتى بعد الوصول للخمسين سيظل الابن يتذكر أنه عاش مع عاطفة الأبوة الناقصة، التي غابت باكراً عن حياته.
في ” غرفة أبي” اختار الكاتب في مراجعته للوعي أن يتوجه الخطاب على مدار النص للأب الغائب، ورغم أنه نادراً ما يستخدم كلمة ” أبي”، بل يقول ” الأب” وهو باستخدام هذه المفردة من دون ربطها بياء الملكية، كما لو أنه ينزع صفة الخصوصية لصالح عبارة يقولها في النص “لا أدري لماذا كلما تذكرت أبي أتذكر الأب السماوي. هل كنت أظن في سريرتي أن كل من فقد أباه يصبح له أب في السماء؟” ص 65.
وكأنّ تذكر الأب السماوي هنا فيه بحث عن الأمان المطلق، عن حماية يرجوها أن تأتي من الغيب وأن لا تنتهي، لأن الأب بعيد، وكان “الله أباً ورفيقاً وصديقاً” منذ الزمن الذي غاب الوجود المادي للأب، لكن وجود الله لم يغب من داخل الكاتب، حتى في لحظات الشك، لم يكن يغيب. ولعل من أجمل ما يرد في السيرة تحليل الكاتب لعلاقته مع الله، ورؤيته للدين قائلا : ” الإيمان قبل الدين، الإيمان بالفطرة، الإيمان بالحدس، الدين يأتي لاحقاً، أما الإيمان فهو في البدء والإيمان وحده يكفي. عندما حلت الأديان راح وجه الله اللامرئي يتلطخ بالدم. لم يكن البشر يتقاتلون ويقتل بعضهم بعضاً، كانوا يقتلون الله، الله الأعذب من ماء الينبوع، الألطف من نسمة، الأرق من ابتسامة طفل” ص68.
في ختام النص تحل لحظة السؤال عن الجذور والهوية، ولعل وصول الكاتب إلى هذه البؤرة في سرده الذاتي يمثل الذروة في البوح حين يتساءل: ” هل يمكن لشخص أن يكتب سيرته مادام يشعر كل لحظة أنه مقتلع؟ أنه بلا هوية، أنه فقد هويته أو أضاعها؟ هل يمكن لشخص يشعر أنه مقتلَع أن يكتب سيرة لنفسه؟ ألا تمسِي سيرته هذه سيرة أي شخص يعبر هذا العالم.” ص221
تظل هذه التساؤلات مفتوحة، إذ ليس هناك ما يحسمها، لأنها متماسة مع أوجاع البشر ككل، سؤال الهوية، والذات، والمرجع، والوجود، والرحيل، والآخر، أسئلة وجودية عبثية ثائرة باستمرار في الذات القلقة، الميالة إلى الشك. من هنا تبدو الجملة التي يقولها وازن في الصفحات الأخيرة، كاشفة لموقفه من الحياة والكتابة، حيث الانتصار للكلمة، للقصيدة، أكثر من الذاكرة الماضية، وأكثر من اللحظة الآنية. يقول: ” أعلم أنني أزرع هذه الأنا أو هذه اللا أنا في بياض الصفحة، في تراب الصفحة، عساني أبصرها تنمو وتزهر مثل نبتة، فأنظر إليها آنئِذٍ وأصمت”ص221
——-
هوامش :
1- د. جابر عصفور: زمن الرواية، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة 2003 ، ص 195.
2- عبده وازن، “غرفة أبي”، منشورات ضفاف- ومنشورات دار الاختلاف ،2013
د. لنا عبد الرحمن