مطبخ الحب.. كتابة الألم بنكهات لاذعة

 

لعل أكثر ما يلفت الانتباه في رواية “مطبخ الحب” للكاتب المغربي عبد العزيز الراشدي، هي قدرة المؤلف على استدراج قارئه لمتابعة أحداث الرواية. إذ يبدو من الوهلة الأولى للقراءة أن الرواية تعني بشكل مباشر بمشاكل الجيل الشاب في المغرب، ومصير العلاقات المتداخلة بين الحب والجسد، والرغبة والخوف. لكن مع تتالي الصفحات يتضح أكثر أن الوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفقر وتقييد الحريات الفردية، وثقل الحياة العصرية المرهونة للمال في ألفية القرن الواحد والعشرين، كلها قضايا خيمت بظلالها على بنية النص، مع وجود حالة من العبث يمكن الوقوف أمامها منذ الصفحات الأولى.

تبدأ الرواية مع مشهد حب بين البطل السارد “عبد الحق” ومحبوبته “سهام”، وتتكشف طبيعة عبد الحق المهتزة حين يصف علاقته مع سهام قائلًا: “في المرة الأولى للقائنا كنا هاربين من عصا البطالة والبوليس ومن حياة مفعمة بالأسى” صـ 8. أو أن يحكي عن نفسه، وعن علاقته مع وطنه “كان جزء مني يحتقر الانتماء” صـ 36. ولعل فكرة غياب الانتماء التي يكشفها البطل عن ذاته ستظل على مدار النص تيمة أساسية تحكم شخصيته وخياراته الحياتية، إنه بطل مهزوم، يعيش معاناة جيل كامل، ويسعى بلا طائل للخروج من تخبطاته وأزماته.

يمكن القول: أن رواية “مطبخ الحب” مبنية وفق مستويين من السرد: الظاهر منذ البداية قصة الحب بين شاب وفتاة في المغرب، والزمان هو في العشر سنوات الأولى من الألفية الجديدة، ويتوزع المكان ما بين الرباط، والدار البيضا، وسلا. كما يتخلل قصة الحب تلك أحداث تعصف بالمحبين من فراق وعودة، وخيبة أمل، وهجران وخيانة، وحنين. هذه التفاصيل تأخذ الإطار العام للعبة السرد، لكن في بنية الرواية يكشف الراشدي للقارئ واقع الحياة في المغرب بكل ما فيها من تحديات وعقبات تواجه جيل الشباب، الذي يعاني من التخبط والاضطراب السياسي والفكري، من سيطرة البيروقراطية، والصراع بين الجيلين: جيل الشيوخ المتحكمين في المطبخ السياسي، وجيل الشباب المتعثر، الذي يواجه ضائقات مالية، وحصارًا اجتماعيًا، يراقب الحب ويجعله مرهونًا للمجتمع سواء بالنسبة للشاب أو الفتاة. فالبطل الذي يعمل في الصحافة، ويعاني من التحولات العصرية السريعة يطرح تساؤلاته عن التيمات الإنسانية التي تحكم العلاقات في زمن يصير فيه التواصل عبر الإنترنت أكثر تأثيرًا من التواصل الواقعي، فالرجال الذين يكثرون في المدينة، يبحثون عن نساء افتراضيات، وكذلك النساء تبحثن عن رجال عبر شاشة الكمبيوتر. يقدم الراشدي فكرته حول أثر “الصورة” التي أصبحت الأداة المتحكمة في آلية تفكير الجيل الجديد. فالصورة هنا هي المعادل الفعلي للإيهام، ثم يربط هذه الفكرة بمدلولها السياسي قائلًا: “بنات الدرب يحضرن أزواجًا من بعيد لأنهم لا يعرفون ماضيهم. السياسي يخاف من الماضي… وإذا أراد شخص تدميرك يعود إلى ماضيك” صـ 172.

 

مطبخ الوجع

يمكن القول أن الرواية تحكي عن مطبخ كبير غير مرئي يتم إعداد الطبخات الكبرى التي تتحكم بالوطن، وهذا المطبخ يسيطر عليه طهاة عجائز، ومطبخ آخر يكتب فيه البطل “عبد الحق” قصاصات أحلامه، ومذكراته، وخياناته، فالمطبخ جزء مهم في التشكيل النفسي للبطل، حين يلتقي بمحبوبته بعد فراق يقول لها:

– لا أريدك على سريري كما في الماضي، أريدك أيضًا في مطبخي.

هكذا يتشكل حضور المطبخ في الرواية، خاصة حين نعرف أن “عبد الحق” يكتب في المطبخ، ويترك أوراقه ملقاة هناك، وبسبب تلك الأوراق سيخسر محبوبته “سهام”؛ على الأوراق يكشف الراوي خيباته الكثيرة، وتشرده في أوروبا يقول: “أخفيت معاناتي في شوارع أوروبا وشحني مثل القمامة إلى بلدي”، ويحكي قصص ضياعه في الدار البيضاء، وعلاقاته مع النساء، وفي كل هذا ينظر للمطبخ كمكان أليف بالنسبة له يعيد ترتيب سطور حياته فيه، أو يعثر على أفكاره العظيمة وهو يعد شيئًا يأكله أو يشربه. ولعل تقديم هذه العلاقة مع المطبخ من كاتب شاب يكسر النمط التقليدي المرسوم مسبقًا في اختصاص المطبخ بالنساء، يتواطئ الراشدي مع وجود الرجل في المطبخ، مساندًا بشكل غير مباشر الأفكار النسوية التي قاومت لأعوام فكرة اقتران المطبخ بالمرأة.

بيد أن “مطبخ الحب” عند الراشدي لا يوجد فيه تفاعل بين الحواس كلها، لا تفوح منه روائح الأطعمة المطهوة، بل إنه مطبخ للحب فقط تتفاعل فيه الرغبات المتداخلة بين الحب والجسد، يظل الحضور الحسي مقتصرًا على علاقة الجسد بين “عبد الحق” و”سهام”، لكن غاب عن النص تفاعلات الروائح والألوان والمذاقات التي تحيل إليها كلمة “مطبخ” الموجودة في العنوان، بل حتى وجود فكرة الروائح مثلًا ترتبط بالزمن أكثر كأن يقول: “الآحاد في ذهني تستدعي الروائح والتنظيف”.صـ 126. ولعله من الممكن ربط الغياب التخييلي للحواس، مع الحضور الواقعي الذي يطغى على السرد على حساب التخييل، مع مقاربة وقائع تاريخية معينة تتعلق بالمغرب، مثل هجرة الشبان بقوارب الموت، أو طبيعة العلاقة بين الشباب والحكومة التي تتجاهلهم، أو هجوم البوليس ومطاردته طلاب الجامعات، ويوحد بين كل هذه المواقف حالة من الفقد التي تتجلى بوضوح في اضطراب موقف البطل من حبيبته، فهو غير متيقن من شيء أبدًا، لا ينتمي للوطن، ولا إليها، ولا لأي شيء محدد، لذا يظل متذبذبًا، في اختياراته وأفعاله، يجنح للاختيارات العابرة كما في علاقاته الأخرى، شخصية “عبد الحق” لم تحمل في أبعادها شخصية البطل التراجيدي المعذب، بقدر ما جسدت حالة صراع، فهو يعبر عن عدم يقينه في كل ما حوله، بل في ذاته أيضًا، وفي عدم قدرته على حسم أمره، في حين تبدو المرأة المحبوبة “سهام”، أكثر ثباتًا ويقينية منه، سواء في عواطفها نحوه، وإقدامها على الدخول في علاقة جسدية رغم عدم تيقنها من عواطفه وإحساسها بخذلانه لها في كثير من المواقف.

وإن كانت حالة التأرجح التي سيطرت على البطل “عبد الحق” طوال النص يحاول الكاتب أن يضع لها حدًا في ختام الرواية حين يقول: “يخالجني شعور بالراحة والأمان مثل من وصل إلى مستقر له فأواصل المشي قرب البحر، وأنا أغطي جرحي الطري بيدي” صـ 190، إلا أن هذه المحاولة جاءت متماهية مع الحالة الأساسية التي تخيم  على الرواية، وعلى بطلها، من دون أن تحمل سمة العثور على الراحة، أو الأمان الفعلي؛ لأن العوامل المسببة للحالة ككل بما فيها الأوضاع السياسية والاقتصادية المتأزمة والمطروحة عبر النص، مازالت على حالها ولم يطرأ عليها أي تغيير، من هنا يكون من الصعب العثور على إنقاذ فردي لواقع البطل المضطرب، لذا يبدو قوله الأخير أشبه بعلاج مؤقت ينسجم مع ختام الرواية، من دون أن يحمل حلولًا موضوعية لمشاكل الأبطال، التي بدت متروكة لمصير مجهول.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى