هاروكي موراكامي في روايته “سبوتنيك الحبيبة”
“المهم ليس الأشياء الكبيرة التي فكر بها الآخرون، بل الأشياء الصغيرة التي فكرت بها أنت”.. هذه العبارة المأخوذة من رواية “سبوتنيك الحبيبة” لهاروكي موراكامي تبدو حكمة أساسية يتكئ عليها هذا الكاتب الياباني في غالبية رواياته. إنها الرواية الرابعة المنقولة إلي اللغة العربية بعد “الغابة النروجية” و”جنوب الحدود غرب الشمس” و”كافكا على الشاطئ” حيث يسير موراكامي على ذات النهج في الكتابة مستندا إلى لغة بسيطة وموضوعات تبدو في ظاهرها عادية لكنها تتقاطع مع قضايا شائكة وافتراضات كونية غامضة تبحث عن أدلة وإجابات على وجودها.
هذه الموضوعات التي وجدناها في “كافكا على الشاطئ” مع الصبي الصغير “كافكا” الذي يخوض مغامرات مثيرة وتجارب تتجاوز حيز القدرات العقلية العادية للأشخاص، هذه التيمة يمكن تلمسها أيضا مع بطل “جنوب الحدود غرب الشمس” الذي يتكل على الفلسفة في نظرته لقضايا حياته .. يذكر أن موراكامي يُعتبر من ضمن الأسماء المرشحة لجائزة نوبل، كما أنه ينتمي لجيل جديد من الأدب الياباني المعاصر الذي يختلف في تقنيات كتابته عن الأدب الياباني الكلاسيكي المعروف عند كاواباتا وميشيما.
خيوط السرد
البطلة في النص هي “سوماير” لكن فعل الروي يتم عبر شخص آخر هو صديق سوماير، يعمل مدرسا للأطفال في المرحلة الابتدائية، وعلى الرغم من ظهور هذه الشخصية كما لو أنها من خارج الحدث الرئيسي إلا أن فعل القص من بدايته إلى نهايته يمسكه هذا الراوي مشكلا الحلقة الكبري التي تمسك بسائر الحلقات الاصغر، سواء كانت سوماير التي يحكي قصته معها، أو ميو الشخصية الأخرى التي يحملها موراكامي تساؤلاته الخفية عن العالم.
الراوي في “سبوتنيك الحبيبة” يعاني من حبه لسوماير لكنه حب خفي ومكتوم لا يتمكن من التعبير عنه خوفا من فقدانها يقول “كنت أحب سوماير، انجذبت إليها من المرة الأولى التي تبادلنا فيها الحديث معا، ولم يعد هناك مجالا للتراجع. حاولت أن أخبرها مشاعري، لكن المشاعر والكلمات المناسبة لم يمكنهما التلاقي، لعل ذلك كان أفضل، ربما كانت ستسخر مني”.. أما سوماير فهي بنت في الثانية والعشرين من عمرها، يتيمة الأم، تعيش مستقلة عن والدها، كل طموحها في الحياة أن تكون “روائية” وهي من أجل ذلك تكتب باستمرار لكن من دون أن تتمكن من الوصول للحظة التنوير التي تجعلها مؤمنة بما تكتبه.
تعيش “سوماير” حالة قلق مستمرة حول مستقبلها ككاتبة يقول: “في عطلات نهاية الأسبوع، كانت سوماير تأتي الى شقتي ومسودات رواياتها تملأ يديها؛ المخطوطات المحفوظة التي نجت من مذبحة اتلافها – مع ذلك كانت تشكل كومة كبيرة – كانت سوماير تعرض مسوداتها على شخص واحد في العالم كله. هو أنا. كتبت سوماير بعض الأعمال ببداية، وبعضها بنهاية، لكنها لم تكتب شيئا ببداية ونهاية”.
لا يمكن لقارئ موراكامي أن يقف بسهولة على عقدة النص، وما إذ كانت نفسية أو واقعية، الملامح الأساسية لأبطال رواية “سبوتنيك الحبيبة” هي أنهم مثقفون، مهتمون بالكتب والموسيقى، يتبادلون خبراتهم ومعارفهم في هذه الحقول، وقد يتبادر الى الذهن أن الأزمة النفسية التي تعاني منها “سوماير” تتركز حول الحب المثلي الذي يربطها مع “ميو”، وأيضا حول معاناتها ككاتبة.
منذ الصفحة الأولى يذكر موراكامي حكاية الحب التي خاضتها “سوماير” يقول في الأسطر الأولى من الرواية “في ربيع عامها الثاني والعشرين، أحبت سوماير للمرة الأولى في حياتها، حبا عميقا، إعصارا حقيقيا عصف عبر الحقول مسويا كل شيء في طريقه بالأرض، مُلقيا بها عاليا في الهواء. مزقها إربا وحطمها قطعا. كان من أحبته سوماير أكبر منها بسبع عشرة سنة، ولعل من واجبي أن أضيف هنا أن من أحبته سوماير كان امرأة”.
بين حلم والحقيقة
يطرح موراكامي تساؤلاته المضمرة عن الأحلام، من أين تأتي وكيف تنتهي، ثم لم تؤثر على أيامنا الى هذا الحد، وهل تحمل الأحلام رغباتنا الخفية في العقل الباطن، أم أنها قادمة حقا من جانب آخر في هذا الكون؟
موراكامي الذي يكتب بدقة وحرفية صانع الأرابيسك يركب قطعة بجانب أخرى لتكون لوحة فنية مبهرة. الكلمات الأولى للرواية، وما سبقها من صفحة بعنوان “سبوتنيك” تحدث فيها عن المركبة الفضائية التي أطلقها الاتحاد السوفيتي عام 1957 ولم ترجع الى الأرض، لا توحي أبداً بأن هذه التفاصيل ستحكم مدار الرواية، وستكون المحور الرئيسي للاحداث، لأن موراكامي بعد سرده لهذه التفاصيل ينتقل لوصف الحياة الواقعية لسوماير وما طرأ عليها من تغيرات بعد ظهور “ميو” في حياتها. حكاية الحب المثلي لم تكن محور الرواية، بل مجرد تفصيل يقود للحدث الأهم وهو اختفاء سوماير، في ظروف غامضة جدا ومن دون أن تترك أي أثر يدل على وجودها.
تنتقل سوماير للعمل برفقة ميو، ثم تغادران معا إلى جزيرة بعيدة في اليونان. تحاول سوماير التقرب من ميو، تعرض عليها حبها لكن ميو ترفض هذا الحب قائلة بأنها فقدت جزءا منها من زمن بعيد، ولو كانت كالسابق لربما قبلت بعاطفة سوماير. تتحدث ميو عن انقسام في شخصيتها تعرضت له إثر حادث فقدت معه نصف ذاتها وصارت تعيش بذات منقسمة الى نصفين، أحدهما رحل الى عالم آخر، فيما النصف الثاني موجود في جسدها لذا هي تحيا معذبة بالجزء المفقود منها. حدث ذلك حين حجزت ميو داخل دولاب دوار في مدينة الألعاب، تستمر اللعبة في الدوران وتقف في الأعلى عند زاوية تتمكن ميو من رؤية حجرتها عبر منظار، حينها ترى نفسها، أو شبحها برفقة رجل ما. هذه التجربة حطمت ميو، شطرتها الى قسمين تفصل بينهما مرآة.
أما سوماير فتروي في مذكراتها التي يجدها البطل على جهاز الكمبيوتر حلما رأت فيه نفسها “تتسلق درجا طويلا لمقابلة والدتها الميتة. لكن حين تصل تعود أمها إلى الجهة الأخرى. ولم تستطع سوماير إيقافها، فتبقى واقفة على قمة البرج وهي محاطة بأشياء من عالم مختلف”.
بين عالم الحلم الذي تكتبه سوماير، وبين الحادثة التي تحكيها ميو عن انقسامها الى شخصين، وتحول شعرها بالكامل إلى اللون الأبيض بعد تلك الليلة، هناك تداخلات شتى يطرحها الراوي حول حقيقة ما حدث لكل أبطال الرواية (هو- سوماير- ميو).
يقول “لقد ذهبت سوماير الى الجهة الأخرى – هذا سيفسر الكثير- دخلت سوماير المرآة ورحلت الى العالم الآخر لمقابلة ميو التي هناك. بما أن ميو التي في هذا الجانب رفضتها، ألا يبدو صنيع مثل هذا شيئا منطقيا.”
يتوقف موراكامي بالتفصيل عند عالم الأحلام قائلا عبر كتابة سوماير “ما الذي ينبغي عمله لتجنب الاصطدام؟ منطقيا الأمر سهل. الجواب هو الأحلام. الاستمرار والاستمرار في الأحلام. ولوج عالم الأحلام وعدم الخروج منه أبدا. العيش هناك ما تبقى من العمر”.
يركز الكاتب على مراقبة الجزء المجهول من الذات، يحاول الكشف عنه، والغوص لما وراء الظلام الكامن في البقع الضبابية المعتمة من النفس البشرية، لكن متعة قراءة كاتب عظيم مثل موراكامي واكتشاف عوالمه الغامضة لا تكمن فقط في مقدار الدهشة المخبوءة بين السطور واحساس القارئ أنه غير قادر على التنبؤ بالحدث، بل في عدم القدرة أيضا على التميز أين بدأ الحلم، وأين انتهي، أين كان الواقع، ومتى بدأ الخيال. يجبرنا موراكامي على التحديق في أعماقنا، في أماكن لم نخمن وجودها من قبل.إنه يكتب عن الظلام الحالك الذي يسكن في النفس البشرية، فلا يمكن سبره بسهولة. ظلام ملتهب في أعماقنا تعلن عن وجوده سخونة قشرته الرقيقة التي تخفي في نواتها حمم على وشك الانفجار.
د. لنا عبدالرحمن