“ليزا والجسد السماوي” .. تفاصيل الحياة والجسد
تنتمي الكاتبة الألمانية “زلك شيرمن” إلى الجيل الجديد من الكتاب، فهي من مواليد 1973عاشت في مدينة فرانكفورت، ودرست العلوم المسرحية والأدبية، نشرت عدة قصائد ومجموعات قصصية، هذا بالإضافة لتجاربها في كتابة الرواية.
في مجموعتها القصصية “ليزا والجسد السماوي” الصادرة عن دار قدمس في دمشق، يحضر الخيال الخصب والمتداخل الذي يميز كتابة “شيرمن” مما يضفي عنصر الإثارة على قصصها؛ لأنها قادرة على البوح عن مكنونات الحب وحياة الجسد، بنبرة هامسة لكنها تضج ببوح حميم يهدف إلى الكشف عن عوالم داخلية مضطربة وقلقة، تطغى عليها الرؤية العصرية للواقع، للتفاصيل، للحياة ككل.
تغوص قصص “شيرمن” في عمق الشخصية الإنسانية في ظروف متباينة، وتعمد إلى رصد أحوالها في مواقف شتى من خلال تجارب معاشة، هذا ما يلمسه القارئ في القصة التي حملت عنوان المجموعة “ليزا والجسد السماوي”، تسير أحداث القصة عبر راوية تحكي عن فتاة تدعى “ليزا” تعمل في مكتبة، تقول في مطلع القصة: “وحين أخرج من المكتبة من جديد، لا أحمل من باب الاستثناء، أو الشذوذ كيسًا من الورق، بل هو مجرد هذه القصة الغريبة في رأسي التي حدثتني بها ليزا كراوس.”
لكن الكاتبة تسحب القارئ للتفكير في شخصية “ليزا”، ولماذا يحدث هذا التماهي بينها وبين راوية القصة؟ لماذا تحكي الراوية القصة كما لو أنها تعيشها من جديد بكل أجوائها وأحداثها الخاصة بليزا فقط؟ هناك حديث عن الحب، الجنس، التبعية، البحث عن السلام، والمعاناة، لكن الكاتبة في هذا كله تستخدم الخيال وصيغة القص الافتراضي لحدث لم يقع، لكنها تفترض حدوثه ونتائجه في خيالها، تقول: “وبينما أتوجه نحو مطعم صيني للوجبات السريعة، تأتي ليزا في تصوري لتسير إلى جانبي مارة برهط من الرجال يتفاوضون مع حاجب، وهم في قمصان ملونة، وبينما أطلب من الآسيوية قدحًا من الشاي، تظل ليزا في الخارج”.
تحضر “ليزا” على مدار القصة البالغة في عدد صفحاتها 30 صفحة، كما لو أنها بطلة افتراضية، أي أن هناك شخصية الراوية التي تحكي، وهناك حكاية “ليزا”، وبين الشخصيتين توجد تقاطعات سردية، تركز على الجانب النفسي من حياة ليزا، تقول: “وليزا تُسر بأن تمد يدها إلى حقيبة يدها في بعض الأحيان، وتلامس الشيء المعدني البارد، وتقول لنفسها: أنا أستطيع من الناحية النظرية أن أدافع عن نفسي دائمًا”.
الجسد السماوي
تتمكن الكاتبة عبر هذه القصة من عرض كافة الجوانب في حياة “ليزا”، تلك الفتاة الهشة، غير الواثقة من نفسها، التي تعاني من خوف واضطراب نفسي في رؤيتها للآخر، وفي علاقتها مع الرجل تحديدًا، والتي تبدو مزيجًا من الوحدة، افتقاد الحب، والاغتراب تقول: “لقد قدمت لها هذه الليلة على نحو نهائي وحاسم، على أنها لن تعرف حبًّا عاديًا طبيعيًّا أبدًا، وأنها لا بد لها من الانحناء بعض الشيء لترغم الآخرين على أن يلامسوها، بمسدسها”.
تضم المجموعة القصصية ثماني قصص هي: “ليزا والجسد السماوي”، “محيط البروق”، “التعرج أو الخطايا السبع القاتلة”، “الاستسلام”، “عالم الدمى”، “حرب أم سلام”، “القاتلة”، والقصة الأخيرة تحمل عنوان “مصاصة الدماء”.
إن “شيرمن” كاتبة مشغولة بالحكي عن تفاصيل مركبة في العلاقة بين المرأة والرجل، بل وبين المرأة وذاتها أيضًا، ثمة بوح عن جزئيات نفسية صغيرة كما في قصة “حرب أم سلام” التي تحكي فيها عن لقاء حميم بين امرأة ورجل تخمن أنه يحبها، لكن اللقاء الجسدي العاصف ينتهي بالتصريح لها عن ارتباطه بامرأة أخرى تقول: “ولا أريد أن أرى كيف يرتدي ثيابه، أعدو إلى الحمام، حيث أنظر إلى نفسي في المرآة، وأحملق في العيون الزجاجية، وأقول في نفسي، النهاية، انتهينا، هذا هو الختام، وكان يعقد لتوه خيوط حذائه حين بدأ جرس الهاتف بالرنين”.
هذا التوتر، واللبس، في العلاقة بين المرأة والرجل، نجده في قصة “استسلام” أيضًا، كلتا القصتين تكشفان عن وجود مناطق غائمة، ومشاعر شائكة. تكشف قصتا “شيرمن” أن الجنس لا يعوض أبدًا عن غياب الحب، والحنان في العلاقة العاطفية بين المرأة والرجل، وأن فقدان الأمن والانتماء بين الاثنين يؤدي إلى تردٍ سيئ ينتهي بانهيار العلاقة ككل.
تقول في قصة “استسلام”: “لم يكن من قبيل الكذب أيضًا تجاوبي في يوم عيد ميلادي الثلاثين بحماسة مع عرض (كليمنس) أن نستأجر منزلا مشتركـًا، ومع ذلك لم يشأ السلام الداخلي الذي كنت ألتمسه بإلحاح أن يحل في قلبي بل على النقيض من ذلك، إذ لم يزدد كل شيء إلا سوءًا، لأجد نفسي من جديد في الاضطراب الذي كان من قبل”.. في ذلك الوقت لم أعرف بأنني أتعرض للعطن والفساد من الداخل”.
تبدأ قصص “زلك شيرمن” غالبًا من نقطة غير متوقعة وهامشية تمامًا لا تتعلق بالمحور الرئيس للحدث، لكنها تقترب من بؤرة القص شيئـًا فشيئـًا. كأن يكون مطلع القصة يركز على الوصف الخارجي للمكان، أو أن تبدأ مع شخصية هامشية غير مؤثرة على الحدث الرئيس. تقول في مطلع قصة “عالم الدمى”: “كانت أرضية سطح المبنى خالية إلا من منضدة وكرسي ومنشر غسيل قديم، والحق أن شمس الشتاء التي كانت تسقط أشعتها من خلال نافذة السطح لم تكن تهب حرارة، غير أنها كانت تسقط مثلثـًا ضيقـًا من الضوء على الأرض، وكان الغبار يلمع، وكأنما في وسع المرء أن ينتقل بالانطلاق من هناك إلى بعد آخر”.
لكن على الرغم من اتكال هذه الكاتبة على الوصف في معظم قصص المجموعة، فإن ذلك مرده إلى غرقها في التفاصيل بكل أنواعها، الداخلية والخارجية، إنها تتعمد الموازنة بينهما لتبني عوالم قصتها. إن قصص “شيرمن” طويلة ومحملة بتفاصيل كثيرة تتجاوز قدرة احتمال القصة القصيرة، لذا يبدو السرد الذي تقوم به “شيرمن” في قصصها يتناسب أكثر مع النفس الروائي أكثر منه مع إيقاع القصة القصير والمكثف.
يشار أن المجموعة القصصية “ليزا والجسد السماوي”؛ للكاتبة الألمانية زلك شيرمن صدرت عن دار قدمس، دمشق – ترجمة: زياد منى.
د. لنا عبدالرحمن