تفاصيل أنثوية في”سحر التركوا”
في عملها الروائي الثالث “سحر التركواز”، بعد “جدار أخير” و”مقعد أخير في قاعة إيوارت”، تنسج الكاتبة المصرية مي خالد تفاصيل أنثوية عبر تداعي الذاكرة بين بطلتيها “ليلى ونيرفانا”.. تروي الكاتبة حكاية البطلتين في تواتر سردي، حيث تقوم كل واحدة بسرد أحداث من حياتها تتشابك وتتلامس مع حياة الأخرى ضمن سعي النص لإثبات حالة تشابه سيكولوجي بينهما. نيرفانا أو نونو كما يرد اسمها في الرواية هي عمة ليلى.
ليلى التي تبدأ عملية السرد معها، وتعلن منذ البداية عن دخول عمتها “نيرفانا” في غيبوبة تقول “أي عقاب سيلحقونه بي لو عرفوا أنني وراء دخول نيرفانا في تلك السكتة الدماغية؟ غيبوبة تلفها بعد أن ابتلعت كميات هائلة من مياه البحر.”
من هذه البداية يجد القارئ نفسه تدريجياً في قلب النص، الذي يتكشف غموضه مع توالي السرد بين ليلى من واقعها الأرضي، ونيرفانا عبر غيبوبة تجعل ذهنها يقظا ليروي تفاصيل من خلف حجاب الغيبوبة. تقدم ليلى نفسها منذ الصفحات الأولى على أنها السبب الأول الذي دفع بنيرفانا إلى الأمواج الزرقاء. هي التي خذلتها في تحقيق حلم مشترك لهما معاً في اعتلاء خشبة المسرح، لكن ليلى تتراجع في اللحظة الأخيرة، وبدلا من أن ترتقي الخشبة تتقهقر إلى الشارع.
لكن هل هذا الحدث هو الذي دفع بنيرفانا إلى الأمواج في مغامرة قد تؤدي إلى موتها؟ أم أن هذه الرؤية متوائمة مع ما تسجله ذاكرة ليلى من أحداث منذ أيام الطفولة مروراً بالصبا وحتي الشباب.
تنساب ذاكرة ليلى في مواقف متداخلة عن أم هجرتها وهي طفلة، وعن أب حاضر غائب، وعائلة كبيرة ترى فيها خطيئة الأم في تخليها عن الأب، لكن نيرفانا تختلف عنهم في العلاقة مع ابنة الأخ التي تعي وتلاحظ نظرة العائلة لها.
تقول ليلى “سيكررون مأثوراتهم عن تاريخي الأمومي ويلعنون يوم اقترن أبي بفتاة لا تربطهم بها صلة دم أو رحم كالعرف السائد في العائلة، لكنهم لايلومونه مباشرة، لأنهم يشفقون علي ضعفه الذي لن يحتمل مزيدا من الصدمات، فقط سيلعنون سراً يوم ولدت وعشت متمزقة بين جهات عدة.”
تختصر الكاتبة في الجزء الأول من شخصية ليلى مجموعة صفات اجتماعية ونفسية ساعدت في تشكيلها.. هي الفتاة الموزعة بين أحاسيس عدة يتناولها إحساس فقد أم اختارت الرحيل، وإحساس بالذنب نحو عمه شاركت في تربيتها وحاولت أن تورثها العديد من صفاتها النفسية. وهناك أيضا الرغبة في التمثيل والعجز عن تحقيق هذه الرغبة.فالفقد الذي يمثله دخول نيرفانا في غيبوبة، والتخلي المجسد في غياب الأم ثم الهزيمة النفسية إثر هروبها من المسرح هي الخطوط الرئيسية التي تنسج منها “مي خالد” شخصية بطلتها ليلى.
ذاكرة الألوان
كما يتضح من عنوان الرواية، ومن غلافها الذي يطغى عليه التركواز الممزوج باللون البني، أن الألوان ترتبط عند كلتا البطلتين “ليلى ـ نيرفانا” في “سحر التركواز” بذاكرة معينة، كما يتضح من عنوان الرواية. فالألوان لها سحر خاص وفق رؤية “نيرفانا”، اللون هنا هو بوابة تحليق روحي نحو أفق أكثر رحابة، حيث لغة الألوان وإتقان لعبتها هي الدائرة السردية التي تحكم الرواية منذ بدايته.
كلتا البطلتين تتحدثان عن أثر اللون وخصوصيته تقول نيرفانا “أريد أن انفلت من شبكة أحداث متداخلة لا فكاك لي منها سوى نسيانها مؤقتاً، أحداث لها ألوان متنافرة، بني مع كحلي، تركواز مع زيتي، أصفر فاقع مع أحمر.”، ولن يخفف من وطأة صدمتها البصرية سوى الدخول في لوحات بألوان متناسقة جذابة.
أما ليلى فتحكي عن التطابق مع نيرفانا في دخولها إلى ذات الهالة اللونية وامتزاجها فيها، وكأن ليلى هي امتداد لعمتها لأسباب عدة، فهي الابنة التي كانت تشتهيها ولم تنجبها لأسباب مرضية.
وليلى أيضا هي الأمل الذي تعلقت به نيرفانا لتحدث ثورة في دماء تلك العائلة الراكدة، التي لم تختلط دماؤها بدماء غريبة إلا بعد إنجاب ليلى.
تقول ليلى “أكاد أسمع صوتك وأنت تحكين لي عن بدايتنا، كنت تقولين لكل شيء بداية ونهاية أما نحن فكانت لنا بدايتان وسنظل نتناسخ.”
الأحجار الكريمة
تلجأ الكاتبة أيضا بالإضافة إلى لعبة الألوان إلى وصف علاقة البطلتين بالأحجار الكريمة وأثرها الشفاف على النفس، هذا التفصيل السردي الذي يبدو أنثوياً وروحانياً أكثر لارتباطه بمعتقدات غيبية غامضة.
تقول ليلى في وصف عمتها نيرفانا ومدى تعلقها بالأحجار الكريمة “هل ضاع منك صندوقك المليء بالعقيق والتوباز واللابيس والزمرد واللؤلؤ والمرجان؟ ولماذا إذن أدخلتني إلى هذا العالم الملون في دهاليز وأزقة الخان؟ هل أدخلتني إلى العوالم الملونة لتتركيني وتستقري وحدك في عمق قاتم سحيق؟” تفتش ليلى في كراسة نيرفانا وفي رسوماتها، تقلب صفحاتها وتستخرج حكايات زمن ماضٍ، زمن لقاء الجدات والخالات والعمات في أشهر الصيف في “سبورتنج”.
وتكشف مي خالد في هذا الجزء من السرد عن حكايات الطبقة الوسطي في مصر في حقبة السبعينيات والثمانينيات.كما تكشف عن الزيجات المرتبة اجتماعياً، نيرفانا مثلا تتزوج قريبا لها في زواج عائلي متفق عليه، بينما هي واقعة في حب “مهند” الشاب الذي تعرفت عليه خلال سفرها إلى ألمانيا. تختتم الكاتبة روايتها أيضا ضمن جو تهويمي يزاوج بين الانفعالات الباطنية والواقعية.
وإذ تبدأ السرد مع ليلى، فإنها تختتمه مع نيرفانا مسلطة الضوء بشكل مكثف على تفاصيل نيرفانا الداخلية، علاقتها بزوجها، علاقتها مع ليلى، ومع حبيبها السابق مهند الذي تكتشف عبر الإنترنت أنه أنشأ باسمها مدرسة حلي مصرية في البرازيل.
تتسارع التطورات والتغيرات في شخصية نيرفانا، هي الأم لابن شاب، وهي عمة ليلى أيضا، وهي المرأة العاشقة للأحجار الكريمة، والتي تسعي لتعلم الكمبيوتر والإنترنت والدخول إلى الحداثة، ثم الغيبوبة التي تعمل الكاتبة على التلويح بإمكانية الخروج منها.
تقول في الصفحات الأخيرة “ما لك تترجرجين بي أيتها الغيبوبة وتدفعين بي إلى السطح بهذه القوة؟ أرغب بشدة أن أغادرك لكن تمهلي لبضع دقائق فقط حتي أستزيد قليلاً من نكهة المسك والعنبر وخشب الورد والنسيم المحمل بالود، تلك الرائحة المحببة .. أزرق فيروزي .. تركواز.”
د. لنا عبدالرحمن