قميص مترع بالغيوم
يفتتح الشاعر العراقي عبدالرزاق الربيعي ديوانه الشعري الجديد ” قميص مترع بالغيوم” ببيتين من الشعر من الممكن اعتبارهما مدخلا مهما لقراءة الديوان وفهم حالاته النفسية والوجودية. إذ يحيلنا البيت الأول إلى حالة الشاعر الواقعية مع حدث الغربة، بيت الشعر لابن عبد ربه ويقول فيه :
الجسم في بلد والروح في بلد
يا غربة الروح بل يا وحشة الجسد
أما البيت الثاني فهو للشاعر الخالد المتنبي، ويقول :
وإطراق طرف العين ليس بنافع
إذا كان طرف القلب ليس بمطرق.
هكذا يتضح لنا مدى الصلة بين البيتين على مستوى المعنى، حيث ثنائية واقع الجسد وغربة الروح،هي التي تُسير قصائد الديوان. فالقصيدة الأولى التي حملت عنوان الديوان تنفتح على أكثر من حالة إنسانية، وكونية، هناك الرجل الغريب المترع قميصه بالغيوم لكن من دون جدوى، إذ ليس ثمة إمرأة تنتظره، أما المرأة الحلم فإنها تتعقب بملل ووحدة “جدولا غريبا يئن فوق سرير بارد” لرجل نائم ولا يبالي بها.
فالقميص المترع بالغيوم هو ” نوح المرايا المتعاكسة” على حالة من الوحدة والفقد، على حزن عتيق من “صلب القصائد في ساحة الاحتمالات” المفتوحة على كل شيئ وعلى اللاشيئ. يجيئ هذا الحزن من وجع العلاقة مع العالم الخارجي من مراقبة طفل يحتضر، وطفلة ” تنبت خارج رحم الولادة”.
قصيدة ” زنزانة” تبدأ بأداة تشبيه تقدم صورة جميلة جدا لحالة نفسية متوحدة يقول ” مثل عصفور مقمط..برجفة الخوف..أجلس متكوما على رصيف اللامبالاة”. هكذا تتالى التشبيهات الموحشة، فالغيمة عاطلة، والمدينة _ التي لا يفصح عن اسمها_ نسيت الأفق،و تيبس الضوء عند نوافذها، أما الرصيف فهو مائع، والقبرة عمياء، ” الزنزانة” هنا هي حصار داخلي أكثر مما هو مكاني، إنه حصار داخل الشارع الواسع،في مطارات الإنتظار، وفي ساحات المدن الغريبة.
مال عبد الرزاق الربيعي، في هذا الديوان- الذي يستحق أكثر من قراءة- إلى تكثيف الصورة الشعرية، التي تأتي موجزة وقاسية أحياناً كأن يقول في قصيدة ” أعراس” التي تعتبر من أجمل قصائد الديوان، وأكثرها إيلاما، : ” أعراس مثل نصال ..نابتة في الرئة”. كيف ينبت النصل في الرئة إلا ساعة القتل؟ لحظة ينغرس فيها الموت بالقلب بدم بارد. لكن المتأمل في هذه القصيدة سيجد أن تلك الأعراس ليست إلا مآتم، مآتم لمن قتلوا فرادى، أو في المقابر الجماعية، جثة على جثة، فيما الرجال يحاولون التأكد من مطابقة لون العينين وفصيلة الدم، أما النساء فإنهن يبحثن عن الحرائز الورقية التي وضعنها تحت النقاب الأبيض. هذه هي الأعراس، إنها ليست سوى أعراساً جنائزية.
أما قصيدة “أشياء” التي يصدرها بمقولة بديعة لريتسوس تقول : ” خلف أشياء بسيطة، أخبئ نفسي لتجدني، وإن لم تجدني ستجد الأشياء”. هذه القصيدة التي تبعثر الأشياء رأساً على عقب، وتعيد تركيبها من جديد، تحكي عن خيبة ملك مجهول وفق رؤية مختلفة تشكلت بشكل أوضح بعد طعنات الأيام. لكن قصيدة ” أشياء” تبدو منسجمة جدا مع قصيدة ” غفوة الأفعى” التي تتحرك في الفضاء ذاته على مستوى توظيف الأسطورة هناك أوروك، عشتار، وجلجامش، وأيضاً الحس الداخلي في العلاقة مع التفاصيل، حيث الخسارة والتخلي، والخيانة، هنا التخلي عن الجسد القديم، الاستمرار في حراثة الأفق بنظرة حارة، تشبه صعود سيزيف إلى صخرته القدرية، حراثة الأفق هنا فعل لا ينتهي، لا يتم، كما لا يمكن أن تتم المصالحة بين جلجامش والأفعى.
يختتم الشاعر ديوانه بقصيدة ” توقيعات” المكتوبة بمضمون حكمي على شكل سوناتات صغيرة، مع عناوين مستقلة داخل القصيدة تقدم رؤية الشاعر للعالم. كأن يقول :
” الطيور تهاجر، تعود، تهاجر، تعود
الريح تهاجر، تعود، تهاجر، تعود، تهاجر
الإنسان يهاجر، يهاجر، يهاجر…
د. لنا عبد الرحمن