الشاعر فادي طفيلي في “شجرة بيضاء تحاول الطيران”
بداية لابد من قراءة ديوان فادي طفيلي من صورة الغلاف التي يسيطر عليها رسم للسماء بمزيج من الأزرق والأبيض، ثم هناك الطريق الترابي، مسافة مفتوحة على المدى. هكذا يمكن الدخول إلى ديوان «شجرة بيضاء تحاول الطيران» من لوحة الغلاف التي تبث احساسا جغرافيا بقصائد الديوان التي لا يمكن فصلها عن العلاقة الشاحبة مع الطبيعة، ومع العالم المضطرب . إنه مجموعة شعرية جديدة للشاعر فادي طفيلي صادرة عن «دار الساقي» ومهداة الى الشاعر والمترجم الراحل بسام حجار، الذي غيبه منذ عام مرض السرطان.و الجدير ذكره أن القصائد التي كتبها الشاعر اللبناني في هولندا حيث أقام بين العامين 2005 و2007
و في هذه المجموعة التي تشكل روح متكاملة في مقاربة العالم ثمة مساحات شاسعة من الغليان الخفي، وولع باكتشاف جغرافيا الأشياء من الداخل، مساحات من الانفتاح على الطبيعة، على الكون، هناك أيضا ولع خيالي ومتافيزيقي، حيث الاحساس الغالب نحو الأشياء غير المرئية أكثر من الموجودات البصرية، نحو الفضاء، نحو جذور الشجرة التي لا تراها العين، نحو الخشب الخفي الذي يخفي طبقات الأرغن الظاهرة. هناك كثافة باطنية لافتة، في اتحاد الإيحاءات وصوتيات الكلمات المترابطة، وامتزاجها، لتشكل قصيدة ذات وحدة منسجمة ومكثفة. يقول :
خشب الكنيسة يضجّ ببهجة الحشرات ووشوشاتها.
في فضاء الهيكل البارد صلاة التهام الزّمن والخشب.
تسلّم المقاعد روحها للسوس والبقّ.
الأرغن يتنفّس بصعوبة في المساحة المتصاعدة.
الارغن يلفظ هواء مُداوما يصل أعلى البرج بالطوابق
السفليّة للقبور.
تحته زوجة رامبرانت، مهرّج القصر، تاجر العبيد
والسُكّر، ومزيج من
كهنة كاثوليك وقساوسة بروتستانت في قبضة واحدة من
الصقيع
والرّخام.”
تحضر في قصيدة فادي طفيلي مفردات متكررة كلها ترتبط بالطبيعة، حتى اختياره عناوين الأقسام، لقد قسم الديوان إلى جزئين الأول : ” موج صغير يحرك النهر من داخله» والثاني «سير متفرقة لأشجار عصفت بها الريح». وفي كل القصائد سواء في القسم الأول أو الثاني هناك تكرار لمفردات معينة :(الصيف-الشتاء- الريح- المطر- الصقيع- البرد- الوحدة- الشجرة- الضباب- البستان – الغيم). إن كل هذه التعابير تكشف عن التصاق الشاعر بالمكان، واغترابه عنه، هو يراقب المدينة من الخارج ويحكي عنها، لكنه في ذات الوقت يتوحد فيها.
يتمكن قارئ هذا الديوان من ايجاد مناخ فريد في القصائد من حيث وضوح جدة شعريتها، كما بحثها عن المجهول غير المتداول الذي جعل من عمل فادي طفيلي عملا فنيا يسنده جمال اللغة الشعرية المنسابة والمكثفة. في قصائده نرى أجواء من الهلوسة والشرود العدمي، كما أنه يدعو قارئه إلى الدخول معه الى عوالمه، تحديدا حين يجاذف في طرح الشك في كل شيئ يقول : العابرون على الدراجات الهوائية يظنّونني تمثال خزف يضبّبه الدخان المُنبعث من المقهى. العابرون في المراكب في مجرى النهر يظنّونني حشّاشا من روّاد مقهى الأمستل رفعه الدخان الى الأعلى. ركّاب الترامواي يظنّونني انعكاسا لراس أحد روّاد المقهى على نافذة البناء. المتشرّد على رصيف النهر يظنّني متشرّدا منزليا لا يحبّ الخروج”
هكذا يبدو محرضاً كلماته على صياغة ما يصعب التعبير عنه، وتسمية الاشياء التي يطرح شكه فيها، وشكه بنفسه، ووجوده ككل. لكن هناك حديث عن جاذبية الشجرة التي تود الطيران، الشجرة أيضا مقيدة بالجاذبية الأرضية وتبحث عن الانعتاق، تماما كما الإنسان، هذا التشخيص الذي ينطلق مع العنوان يضع القارئ في أجواء القصائد منذ البداية.
يروي فادي طفيلي أيضا في هذه القصائد قصة ” مدينة”. إنها مدينة امستردام تحديدا، وحكايا مرور الوقت على مشاهدها وناسها وحجارتها وماضيها. مدينة تعجّ ببرد مدن أوروبا وتبدو مبلولة بمياه الغيوم والشتاء، بالرياح والعواصف، عواصف قاسية، لا تحمل ترابا لكنها تعبق بالصقيع القاسي. هناك غربة تحكم القصائد وتؤطرها، هناك برد شديد ليس برد الجسد بقدر ما هو برد الروح، يقول في قصيدة “علامات الشتاء” :
الغيم العملاق المسمّر في السماء لا يقوى على رفع تلّ
واحد في ظلّ.
الغيم المسمّر ليس علامة للشتاء.
الشجر الملتوي في الهواء،
السّعال،
رفّ الطيور التائه،
والغرفة التي تغدو سجنا لفراشات خائفة
كانت دليل الحيوانات الى الحظيرة”.
فادي طفيلي شاعر يعبث بالأزمنة والامكنة، بالفصول، والجغرافيا في آن واحدة، مندفعا في اتجاهات شتى بلا حدود، ليحكي عن تداخل ما يعرفه هو وحده، ويراه، ويحس به، تداخل بين المكان والزمان في ذاته التي تعيش اغترابها البارد.
د. لنا عبد الرحمن