قصائد «ساعة حياة» للشاعر ويليس بارنستون
في ديوان “ساعة حياة” تتحدث قصائد الشاعر ويليس بارنستون عن عالمه الداخلي، إذ هو يترك للقارئ حرية التجوال بين قصائده أو كما يسميها هو أسراره لتحقيق معادلة الكشف والمكاشفة عن عوالم داخلية متشابكة بين الموت والحياة.
هذه القصائد تعكس حساسية الشاعر الحداثية من خلال مزجها الشخصي بالعام والواقعي بالأسطوري عبر لغة شعرية عالية. الديوان الذي بين أيدينا كتاب يحمل عنوان «ساعة حياة» وهو من ترجمة د. عابد إسماعيل، يحتفي الشاعر بالحياة، لذا اختار هذا العنوان حيث مفردة ساعة هنا لا تشير فقط إلى الوقت بل يحيلها إلى حالة من الحراسة والتفحص، إنه يتأمل الحياة إلى الحد الذي يصل فيه إلى الموت ويدخل في مفارقات المهد واللحد، والموت والولادة، يخوض في مفاتيح الكون هذه مبرراً أن علينا خلال حياتنا الإيمان بالحب والضوء والجمال قدر استطاعتنا وألا نستسلم للموت الذي يفرض نفسه على الآخرين، أو الذي نفرضه على أنفسنا. يهدي الشاعر الديوان إلى أبيه وإلى القارئ في وحدته. ويسرد في مقدمته للديوان أسباب هذا الإهداء قائلاً: كنت في الثامنة عشرة عندما قفز أبي إلى حتفه من سطح بناية في ولاية كلورادو، صعد إلى سطح البناية العالية حيث يقع مكتبه، نشر معطفه بعناية على الأفريز ووضع قبعته المدورة ونظارتيه بكل أناقة فوق معطفه ثم قفز في الهواء..
أما القارئ، ففي وحدته تتقاطع العبارات يقول : “أنتم وأنا، كلانا معاً، نمثل القارئ في وحدته، على الأقل منذ اختراع القراءة الصامتة، أو عادة العزلة التي لم تكتشف إلا في القرن الرابع، حيث كانت قبل هذا التاريخ تمارس على الملأ بصوت عال.. كلانا القارئ السري إذن طالما أننا نشعر بالوحدة، فإننا لسنا وحيدين لأن توقنا يتطلب ويستدعي الآخر. أن نخرج من سجن الذات وننضم للآخر يعني أن نتكلم.
دنيا الأسرار
يؤلف الشاعر بين العنوان والإهداء بتوليفة سرية يكشفها بنفسه عبر سطور مقدمته معترفاً بأن كلماته مفصلية تعني الحراسة بوصفها الملاحظة والتأمل، وتعني الساعة بوصفها الزمن، والحياة بوصفها اللغز والوهم والواقع، والأب بوصفه أحد الرموز المحورية التي تسري عبر القصائد، والقارئ في وحدته بوصفه الشرط الحياتي.
يقول في إحدى قصائده التي تحمل عنوان “أشعر أنني شاب” : أشعر أنني شاب لأنني مازلت حيث كنت أبحث عن عشاء مع قارئ سري. أما قصيدته التي تحمل عنوان أب فيقول فيها: أبي كنت الأول الذي اختار العالم السفلي لذا أمضي الشطر الأول من حياتي متحدثاً إليك تكلم يا أبي محزن أن ألعب دورك وأكون أنت متحدثاً من خلالي، منحتني الشجاعة أو قل جعلت هامتي مرفوعة وفي هذه الظهيرة التي بلا شمس، مترهلاً أمشي أنهض كالملدوغ من كرسي لأمسك بك .
يتضح من الديوان أيضاً مدى تأثر الشاعر ببورخس إذ يعتبره أباً وصديقاً. يقول لقد كان بورخس بالنسبة لي طوال تسعة عشر عاماً أباً وصديقاً ومثالاً يحتذى، لقد كان أباً لكن ليس لكي نخشاه.
المترجم د.عابد إسماعيل قام بفعل الترجمة عن احتفاء وحب بالشاعر وبكتابته، إنه الاحتفاء الناتج عن قرب ومعرفة ناضجة نتجت عن تواصل روحاني ومعرفي يقول في مقدمته للديوان: عرفت ويليس بارنستون من خلال عشرات الرسائل بيني وبينه، ولم أكن أعلم أن هذا الشاعر الذي يناهز الستة والسبعين عاماً يمتلك روحاً متوثبة، وعطشاً فاوستياً لفك شيفرات الكتابة والعالم والثقافات الأخرى مسكوناً بشغف الكشف ومولعاً بالحروف التي ترقص وترسم الوجود بوصفه المتاهة القصوى، إذ يدهشنا بارنستون بمعرفته الواسعة لآداب الكثير من البلدان قديماً وحديثاً ومنها الأدب العربي، وكأنه خارج لتوه من إحدى قصص بورخس.
يكتب بارنستون في الحقول المختلفة: الشعر، والنثر، والمذكرات، وهو متخصص في آداب أميركا اللاتينية، وباحث في الأدب الكلاسيكي والمقارن، تستهويه إلى جانب ذلك أساطير الشعوب، وخبايا ثقافاتها، وميتافيزيقيا الأديان، هذا ما يتضح من مقدمة الكتاب ومن القصائد ومن الحوار الملحق في آخر الكتاب، حيث الكتابة بالنسبة له هي الملاذ الحقيقي والآمن.. فالوجود بالنسبة له هو متاهة كبرى، ولعل هذا ما يمكن تلمسه في القصائد الواردة في الديوان والمختارة من ديوان له يحمل ذات العنوان ساعة حياة.
إن أكثر العلاقات حضوراً في حياة بارنستون وقصائده هي علاقته مع الكاتب الأرجنتيني بورخس هذه العلاقة التي استمرت زهاء تسعة عشر عاماً، بارنستون الذي صدر له أكثر من سبعين عملاً، يعد واحداً من أهم مترجمي بورخس إلى الإنجليزية، إذ يراه أشبه بقديس، فبورخس في رأيه لم يكن قادراً على الحديث إلا أدباً فما أن يتفوه بعبارة حتى تصلح لأن تجد طريقها إلى المطبعة مباشرة. يقول لم يكن بورخس يطيق الذين يعبدوه، ولحسن الحظ لم أجد نفسي يوماً في ذاك الوضع المهين… لكنني أنا أيضاً طفل بورخس، لأن بورخس طفل العالم…
أحب جميع عادات بورخس كما يطلق عليها، سجعه ومفارقاته وطباقه، تاريخه المتخيل والحقيقي، وأنا متورط معها في هذا الكتاب،أو أفترض أني كذلك يقول عنه في قصيدة: أتلمس ذراعه بعد منتصف الليل خاصة بعد منتصف الليل عندما نمشي حول المدينة ـ بورخس يحب أن يتسكع يدور حول عكازه ثم يتف لكي يتحدث ويتحدث ولا يتوقف عن الحديث في قصائد بارنستون هناك سيطرة لفكرة الزمن والعناء من مشاغلته أو بالأصح التلهي عنه، التعامل وفق الزمن النفسي، يسعى بارنستون إلى ترسيخ هذه المعادلة في أكثر من قصيدة يحاول فيها الخروج من ذاته لمحاورة القارئ ومناورته بأفكار جديدة عن الحياة والموت والحب، يقول: في الحياة كنت غطاساً فوق المياه، وأتزلج كإغريقي فوق الأرض انضموا إلي؟ يا لها من تسلية عميقة.
في مواضع أخرى يظهر بارنستون عمق تشاؤمه، وأيضاً تصالحه مع فكرة الموت كأمر حتمي لا مفر منه، تلك المصالحة التي تحمل كثيراً من المرارة وقلق النهايات في روح شاعر قلق ومتأجج برغبة الإبداع والكتابة يقترب من الثمانين لكنه يمتلك روحاً متوثبة وشابة. يقول: قطعوني من فضلكم لصالح مشفى عام واتركوا أعضائي ترقص على أغنية في حفرتي المعزولة أسقطوا ساعة يدي لا شيء آخر وبطاريات إضافية.
د. لنا عبد الرحمن