الكاتبة الفرنسية آنا غافالدا : أود لو أن أحداً ينتظرني في مكان ما

 

 

تنتمي الكاتبة الفرنسية آنا غافلدا الى الجيل الجديد من الكتاب الفرنسيين.في مجموعتها القصصية  “أود لو أن أحداً ينتظرني في مكان ما”  الصادرة مؤخرا بالعربية عن دار قدمس في دمشق تتناول غافلدا أحداثاً عادية لا مفاجآت فيها،مألوفة،تشبه سير الحياة الطبيعي،وهذا ما يميز  نصوصها ويمنحها جاذبية.إذ تبتعد غافلدا عن الإثارة المباشرة،وهذا يتضح من اختيارها لعنوان المجموعة،الذي يحمل كثيرا من التمني اليائس،هكذا أيضا تبدو النصوص مفعمة  بروح ملولة،متعبة من تفاصيل الحياة الروتينية والمكررة،التي تسبب فراغاً لا يمتلئ لأنها تحيك ذاتها من بحث غير مجدي عن احساس ما بالعبث بالفراغ يتكرر خلال رحلة الأيام اليومية. إن العبث الذي يختبئ عميقا داخل أبطال آنا غافلدا،لا يبدو حاضرا على  سطح حياتهم،فهم أشخاص عاديون يمارسون عملهم ونشاطهم اليومي بحماس ظاهر،لكن خلف الظاهر كله تمور في دواخلهم  تفاصيل تجعلهم في دائرة التأزم النفسي المسكوت عنه،هذا ما يعيشه بطل قصتها “خلال سنوات”، رجل أعمال ناجح،متزوج ولديه طفلتين، ويزعم أنه يعيش حياة زوجية هادئة،ثم ما أن تظهر المرأة الأولى التي ارتبط بها حتى يندفع من داخله سيل من التساؤلات المضنية التي تعرض شريط حياته المتشابه ، يقول ” خلال سنوات ظننت أن هذه المرأة كانت خارج حياتي،ليست بعيدة ربما،لكنها في الخارج”.تنوع الكاتبة في أساليب السرد خلال القصة الواحدة،فتنتقل من البطل السارد،إلى الراو الخارجي،وقد يتخلل ذلك حوار بين الشخصيات،أو مونولوج داخلي.

في االقصة الأولى “ممارسات أهل سان جارمان” توجه الكاتبة خطابها  لمجموعة من النساء،تخاطبهن بصيغة الجمع وكما لو أن الكاتبة تود التلميح أن ما ستحكيه قصة مألوفة لدى النساء،وأنهن سيجدن لذة عند سماع تفاصيلها تقول :”سان جرمان دوبريه؟، أعرف ما  ستقلن لي يا إلهي هذا مبتذل، فعلته ساغان منذ  زمن بعيد قبلك وأفضل منك.أعرف ، ولكن ما حيلتي …لست واثقة من أن كل ذلك كان يمكن أن يحدث لي في بولفار كليشي.إنها الحياة.احتفظن

بملاحظاتكن،وانصتن إلي لأن حدسي يقول لي أن هذه القصة ستسليكن”.

تصور القصة لقاء البطلة برجل يدعوها للعشاء،ولسبب مجهول تقرر الفتاة قبول الدعوة وهي تعد نفسها بقصة حب رومانسية،تحكي عن تخيلاتها،أحلامها،ما تنتظره من الفارس المرتقب،تصف مكان اللقاء وانطباعاتها عن الحدث،في مزاوجة بين ما يحدث خارجا وما يعتمل في داخلها تقول :” الرجل الذي يجلس قبالتي يشرب وهو مغمض العينين نصف إغماضة.أعرفه الآن أفضل.يحدثني عن أشياء كثيرة لكن لا شيئ عن نفسه،يعاني بعض الصعوبة في استعادة مجرى قصته عندما أترك يدي تجول على عنقي…القهوة،فاتورة الحساب،معطفانا،ما كل هذا إلا تفصيلات مزعجة” .

لكن القصة تنتهي في الشارع  بشكل عابر كما ابتدت.تختم الفتاة اللقاء وهي تهمس في سرها :

“أكره الهواتف الجوالة، أكره ساغان، أكره بودلير،وكل هؤلاء الدجالين. أكره كبريائي.

تبدو عوالم آنا غافلدا متنوعة وغير محصورة في عالم واحد.تتحدث عبر شخصية الرجال في بعض القصص، وتقدم للقارئ أفكارا تحاول تشكيل تشابك مثير بينها،وإن بدا على شيئ من العبثية أحيانا، لأنها تسترسل وراء تفاصيل  صغيرة تبدو بعيدة عن محور الحكاية،لكن الكاتبة تحرص من خلال هذه التفاصيل  على أخذ القارئ إلى عالم أبطالها بالكامل.هذا ما فعلته في قصة

“كليك كلاك” التي  تقول في مطلعها عبر شخصية راو القصة : ” خمسة أشهر ونصف وأنا أشتهي سارة بريو،مسؤولة المبيعات،خمسة أشهر ونصف وأنا عاشق سارة بريو،مسؤولة المبيعات”.تدور القصة في سلسلة من التفاصيل الحياتية المتلاحقة التي تتشعب لكنها تصب في نهايتها في المحور الأول لبداية القصة.

أما قصة “الأصغر” فهي قصة متكررة عن فساد الطبقة الثرية،عن الاستهتار الساحق الذي يسيطر على فئة من الجيل الشاب المرفه،وعن الجو المعقم من الخارج لطبقة الأثرياء،بينما التظاهر واللامبالاة والتفاهة تحكم سير علاقاته كلها،سواء بين الأهل والأبناء،أو بين الأخوة أو الأصدقاء تقول “يدعى ألكسندر ،وهو شاب مورد البشرة  وأشقر.لكن ما يخص هذا الشب المورد،لا،فالحياة لم تعلمه شيئا قط،وما من أحد شد أذنيه حتى الإيلام”.

القصة التي تحمل عنوان “خاتمة” هي القصة الأخيرة في الكتاب،وهي من أكثر القصص الممتعة

في هذه المجموعة،تحكي القصة عن كاتبة شابة يلقبها زوجها “مارغريت” أسوة بالكاتبة الفرنسية مارغريت دوراس،ويتباهى هذا الزوج السمين  أمام أصدقائه بالجوائز الأدبية التي حصلت عليها  زوجته،فيما يرشقها بسخرية خفية عن الأموال التي ستحصل عليها من الكتابة مما سيجعله يستقبل من عمله.لكن الكاتبة بعد صفحتين تكشف للقارئ أن “مارغريت” تسعى لطباعة مجموعتها القصصية الأولى، لكن محاولتها تبوأ بالفشل حين يرفض الناشر طباعة القصص، حينها تقوم البطلة الكاتبة بالتبرع بمخطوطة قصصها لأجمل فتاة تجدها في الشارع،تضع القصص بين يديها قائلة “خذي،هذه هدية،حتى يبدو الوقت أقل طولا.أظن أنها شكرتني، لكنني لست متأكدة من ذلك لأنها لم تكن فرنسية” .

لم يترجم لآنا غافلدا إلى العربية سوى مجموعة “أود لو أن أحدا ينتظرني في مكان ما” التي  وصلت المبيعات منها  إلى مليونين و222 ألف نسخة من النسخة الأولى ،وقد أصدرت

مؤخرا رواية “المواسية”، التي ضربت رقماً قياسياً  في المبيعات،هذا وقد صدر لها من قبل ثلاث روايات كانت أولها عام 2002 بعنوان “كنتُ أحبه” باعت بحدود المليون نسخة، أما كتابها “معاً، هذا كل شيء” فقد ضرب الرقم القياسي إذ وصل الى حدود المليون و925 ألف نسخة  في فترة زمنية قصيرة جداً. أما روايتها الثالثة “المواسية” الحالية فيتوقع أن تحقق نجاحا كبيرا أيضا.تكشف هذه الأرقام على قدرة غافلدا على جذب القارئ،بأسلوبها السردي الشيق،لذا تمكنت من تحقيق شهرة سريعة في عالم الأدب،وترجمت أعمالها إلى 38 لغة أخرى،كل هذا وهي لم تبلغ الثامنة والثلاثين من عمرها بعد.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى