” 14 ساعة في مطار بغداد ” : اقتفاء آثار المدينة والبحث عن بيت السياب!

 

في كتاب ‘ 14 ساعة في مطار بغداد’، يروي الشاعر عبد الرزاق الربيعي قصة عودته إلى بغداد، بعد غياب طال لسنوات طوال. من هنا بدت تجربته تلك ساخنة، وحميمية، وأليفة في عين القارئ الذي ينجذب تلقائيًا للحكايا المروية عن بغداد؛ سواء كانت تلك الحكايا في كتب التاريخ، أو الزمن الحاضر، وكما لو أن كل ما يُحكى عن بغداد ليس واقعيًا تمامًا، كما لو أنه يقع في منطقة تدمج الواقع بالمتخيل؛ ليتشكل حول بغداد خيط لا مرئي من الواقعية السحرية لا يفارقها، بل يختم مصيرها وقدرها المتغير عامًا بعد عام.

هذه المدينة تطل من الذاكرة مع حكايات هارون الرشيد، وقصائد أبو النواس، مع قصص ‘ ألف ليلة وليلة’،كي تظل تلك الأساطير في مخيلتنا، وإن لم يبق منها شيء سوى ظلال بعيدة نتلمسها في قلب الذاكرة القصية، مدركين أنها جزء منا، من خيالاتنا عن مدينة كان تاريخها الماضي مشغولا ً بتفاعل الحضارة والتاريخ والفكر، الذي سرب ثقافته إلى العالم كله.

 

ما الذي بقي من كل هذا؟

يحق لنا أن نطرح هذا السؤال ونحن نقرأ كتاب ‘ 14 ساعة في مطار بغداد’. يتبع الشاعر عبد الرزاق الربيعي قدره بحثًا عن بغداد التي في خياله، يتحسس خطواته هناك وراء المدينة المفقودة، لكن الحلم يتبدد منذ الدقائق الأولى للخروج من مطار بغداد؛ هناك سيارات عسكرية، مسلحون، وخراب في مسرح الرشيد، ورجال أمن للتفتيش عن المتفجرات. يكتب الربيعي بمزيج من التوثيق الذي يدمج بين الشعر والنثر في لغة حميمة تنضح بالمعاناة، رغم محاولته للتمويه عليها بالحديث عن فرح العودة للأماكن الغائبة، وفرح لقاء الأهل بعد طول غياب؛ لنقرأ هذا المقطع عن العودة، عن رؤيته للخراب، للموت الراقد في حضن المدينة:

عندما تعود إلى الوطن/ ويقودك الحنين/ إلى مدرستك الأولى

لا تبحث عن رحلتك المدرسية / تلك التي تآكل عليها الوقت / وجدول الضرب والقمع وسروالك الموشى بخرائط الفقر/ بل اذهب إلى أي ثكنة عسكرية / ستجد دم طفولتك مسفوحا تحت المجنزرات/ بالقلم العريض.

لعل أكثر المشاهد التي تبرز بقوة – وفي شكل يفرض حضوره لا محالة – هي الرؤية العبثية للموت، فالشاعر العائد من غربته بعد أعوام طويلة ليزور عائلته في بغداد، يطرح على أهله سؤالا يبدو منطقيا للوهلة الأولى: ‘ ألا تخافون من تفجير سيارة مفخخة أو عبوة ناسفة؟’، لكن الإجابة تكون: ‘ هذه الأمور لم تعد تخيف الناس’.. هكذا صار الموت حدثًا عاديًّا في مدينة الرشيد، حدثًا لا يستوقف أحدًا سوى أهل الميت. فيما المدينة تواصل كرنفالاتها الفجائعية، كما لو أن الموت هنا طقس مجوسيّ يستمر بلا توقف وسط دخان الحرائق؛ لأن حديث الشاعر عن العنف الطائفي الذي شاهده وسمع عنه يفوق كل ما سمعنا عنه وشاهدناه في نشرات الأخبار. يغيب وجه الله عن الجامع الذي احترقت قبته؛ لأن أحد الإرهابين صعد إليها وصار يطلق الرصاص عشوائيًا، فجاءت جماعة مسلحة وفجرت القبة، وقتلت القناص الذي عليها. هكذا لا يؤدي العنف إلا لمزيد من العنف، هذا ما يؤكده العنوان الفرعي الذي يضعه عبد الرزاق الربيعي ‘ أينما يممت وجهك تجد ذكرى مجزرة’.

لم تكن عودة الربيعي إلى بغداد مجرد عودة مكانية، بل هناك – كما يبدو – محاولة للرجوع إلى الرحم الشعرية الأول، هذا ما يتضح حين يصف الشاعر بالتفصيل زيارته لبيت السياب، تلك الزيارة التي لم تخل من الصعوبة، هناك نقاط التفتيش التي تقطع الطريق المحفوفة بأشجار النخيل، وهناك الدمار الذي محا جمال الماضي وعبقه. هكذا يبصر خلال الرحلة آثار الحرائق الباقية على جذوع النخيل السامق، ثم الرصاص الذي اخترق بدلة السياب في تمثاله المنتصب فوق شط العرب. وبالقرب من بيت السياب، وبجانب ‘ غابات من النخيل’ يسترجع الشاعر أبيات السياب الشهيرة:

‘ عيناك غابتا نخيل ساعة السحر

أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر’.

وهناك أيضا يكتشف الربيعي لمَ هيمنت تلك الشجرة على مخيلة السياب، ثم يتابع رحلته ليقف أمام بيت من بيوت البصرة القديمة ذات الشناشيل، ليقول له صديقه المرافق: ‘ هذا هو بيت الأقنان الذي كتب عنه السياب’. لكن باب البيت مقفل بإحكام، وملصقة على جدرانه صور المرشحين لانتخابات البرلمان العراقي.

لا يكتفي عبد الرزاق الربيعي بزيارة بيت السياب، بل يقوم ببحث أرشيفي عما قيل عن هذا البيت، فيعود إلى جريدة الثورة العربية، بعددها (184) الصادر في بغداد عام 1965، ومما جاء فيه: ‘ البيت قديم جدًا وعال، وقد تحللت جذور البيت حتى أصبحت كأسفل القبر، والبيت ذو باب كبير كباب حصن كتب عليه بالطباشير اسم عبد المجيد السياب’.

ويتابع الشاعر رحلته، بحثا عن نهر بويب، الذي قال عنه السياب:

‘ إليك يا بويب

يا نهري الحزين كالمطر

أود لو عدوت في الظلام’.

يجد الربيعي مجموعة من الصبية يلعبون عند نهر صغير، فيخبرونه بأن هذا النهر يسمى ‘ أبو بكيع’، ويعرف الشاعر أن نهر ‘ بويب’ لم يبق منه شيء سوى خط من تراب، وأن معالم المكان تغيرت تمامًا، لكنه لا يزال عابقا بأنفاس السياب.

ليست نصوص ‘ 14 ساعة في مطار بغداد’، مجرد حكايات مروية من شاعر غاب عن مدينته وأهله مدة 16 عاما، بل إنها نصوص مضمخة بالحنين والذاكرة، بالشعر والسياسة؛ حيث يتداخل السرد مع الشعر، مع الحكايات، والتأمل النبيل للعادات العربية الأصيلة عند عودة الغائب، كيف يحتفي أهله به، كيف يستقبلونه بنثر الحلوى علامة على الابتهاج. ثم هناك أيضا سيرة الأماكن التي شاخت في زمن الغياب، تلك الأماكن التي عاشت تحولات بغداد، وتغير الساسة عليها وما فعلوه بها. تتداخل حكايات المدينة وأماكنها في تفاصيل موجعة مع ذاكرة الغربة القسرية في كل قسوتها وملوحتها الشديدة، ليس في المعاناة الشخصية التي يحكي عنها الربيعي فقط، بقدر التوقف أمام المآسي المؤلمة التي تعرض لها الشعب العراقي في بلاد الاغتراب، من الثلاثة عشر عراقيا الذين يحكي عنهم، وكيف ظلوا مدة 45 يوما محشورين شهرا ونصف الشهر داخل صالة ترانزيت في مطار القاهرة؛ لأنهم لا يملكون تأشيرة دخول، ولا ذنب لهم سوى أنهم ‘ عراقيون في زمن غير مناسب’، إلى مراقبة الحياة في بغداد بعبثية العيش المخيف، وقوة استمراره بما يشبه احتراق طائر الفينيق الذي ينهض من رماده.

لكن رغم كل هذا تظل الرؤية العامة التي يقدمها الربيعي عن مدينة بغداد في كتابه، رؤية تحمل فيضا من التفاؤل؛ لأنه يعتبر أن ما يعانيه العراق الآن حتمية تاريخية لا بد من مرورها قبل أن تقوم لنهضتها من جديد. فيقول:

‘ بغداد تظل قفصنا الجميل.. بغداد التي تحترق ثم تنهض من رمادها، مثلما هي اليوم، طائر ينهض من الرماد في الزمن الرمادي، ذلك أن المشكلة ليست في بغداد، إنها في المرحلة’.

القدس العربي 5-4-2011

  د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى