أمانة الكتابة والحياة
قلة هم الكتاب الذين تكون شخصياتهم منسجمة مع ما يكتبونه، فلا يحس القارئ بعد اللقاء بهم أنه يتكلم مع شخص آخر مختلف تماما عن كتاباته،لكن غالباً هذا ما يحدث، لكن الذنب ليس ذنب الكاتب دائما لأن القارئ يفتش عن تطابق بين الكاتب ونصه، ويتمنى أن تكون الصورة التي في خياله متطابقة مع الصورة التي رسمها في ذهنه لهذا الكاتب أو ذاك، كما لوأن تلك الصورة التي افترضها لوقت طويل هي الواقع الحقيقي الذي يجب أن يكون عليه كاتبه المفضل،وفي حال تنافت مع توقعاته ربما يحس أنه تعرض لخديعة ما. قرأت للكاتبة الكويتية فوزية شوش السالم منذ مايقارب سبعة أعوام أو أكثر قليلا، عثرت علي روايتها ” مزون” بالصدفة حين كنت أعمل في الصحافة الثقافية في بيروت، حينها وقعت في غرام روايتها “مزون” وصرت أهديها إلى الأصدقاء والصديقات الذين أعرف مسبقا أنها ستروق لهن،ثم اجمعن كلهن على أنه نص مميز فعلا،عقب ذلك صرت أفتش بلهفة عن باقي ما كتبته هذه الكاتبة من روايات،صرت أفتش وأسأل عنها،لكنها كما علمت كانت مقلة في الظهور الإعلامي،لذا لم أكن على يقين من أنني سأجتمع بها يوما.
ثم خلال مؤتمر الرواية الذي أقيم في القاهرة مؤخراً في شهر ديسمبر الماضي، التقيت مع فوزية شويش السالم،كان الحديث معها أشبه بحلم شفيف، إنها المرأة التي لا تنفصل عن كتابتها أبداً ، عباراتها اللطيفة الودودة كنت عثرت عليها من قبل في جمال اللغة المتدفق عبر رواياتها، وفي فتنة الاحداث والشخصيات التي تنسجها بقوة وصبر. تكتب فوزية السالم رواياتها وهي تبني كلمة علي كلمة هذا ما فعلته في روايتها ” حجرعلي حجر”، حيث تستنطق التاريخ من الأندلس إلي اليمن، ومنه إلى الكويت ثم إلى أحلام وتخيلات فيها انكسارات وعطر أمكنة قصية يتعذر الوصول إليها سوى عبر النبش في طبقات التاريخ• تكتب فوزية السالم بكد شديد محفور عميقا عبر نصوصها الروائية، وأيضاً عبر كتابها ” ريجيم الكلام ” الذي تحكي فيه جزءاً من ذاكرة الكويت وأماكن أخرى تسكن عميقاً في روحها.
تحكي بلا وجل مع شخصيات أخرى،وتتقمص أشخاصا عاشوا في زمن سابق،تتآلف معهم،وتتوحد فيهم،تبوح بحكايا بطلاتها،وأوجاعهن بمحبة الأم الكبرى تقول :” من قبلها جاءتني “هيا” من الكويت القديمة،من ثلاثينات القرن الماضي،جاءت بطلبها ورجائها وقالت لي “خذي بحقي”…لماذا حملتني ثقل الأمانة إلى هذا الحد؟هل هناك واسطة خفية بيننا؟أم أنا وسيط قادر على حمل الأمانات الغامضة؟”فهل أنا امتداد لحيوات من كتبت عنهم طبقا لمبدأ الكارما؟”.ثم تقول في موضع آخر “سرنا خلف الأم الكبرى التي تتقدمنا كإشارة وعلامة للطريق.كنا سربا من البنات نمشي في الماء مقرفصات،كانت رؤوسنا وأكتافنا تطفح فوق الماء،الرسوم والأصباغ تلون وجوهنا وتخفيها،كان في فم كل واحدة منا سؤال وورقة من الشجر،في السؤال استجلاء، وفي الأستجلاء نور،وفي النور معرفة”.
يبدو الواقع الذي تصفه فوزية السالم في رواياتها،واقعاً مشاهداً بنظرة مختلفة،إنها رؤية تنبع من قلب مفتوح قادر على الاستبصار بعمق ووعي متقد بشغف رغبة في الكشف عن الطبقات التحتية عما وراء الأشياء الظاهرة. إن علاقة هذه الكاتبة بشخصياتها،وأماكنها علاقة أصيلة ، وجوهرية، علاقة لايمكن أن تكون عابرة في أي حالا من الأحوال، هذه العلاقة المنحوتة عميقاً في الداخل تحضر خارجاً عبر النصوص التي تبنيها حجراً علي حجر لتؤكد أن علاقتها مع الكتابة كما علاقتها مع الأماكن، ثم كما علاقتها مع وطنها أكثر أصالة وعمقاً•
د. لنا عبد الرحمن