“ليلى والثلج ولودميلا” رواية تحكي عن انهيار الاتحاد السوفياتي
في روايتها الثالثة “ليلى والثلج ولودميلا”، تتناول الروائية الأردنية كفى الزعبي المرحلة الزمنية التي تلت انهيار الإتحاد السوفيتي في سنوات التسعينيات من القرن الماضي، وتختار مدينة بطرسبرج لتجري على أرضها أحداث الرواية، وكما يتضح من العنوان المركب فإن كل مفردة من كلمات العنوان الثلاثة ترمز إلى أن قضية ليلى هي البنت العربية الشاهدة على الأحداث والتي ترتبط بعلاقات مع معظم شخوص الرواية. أما الثلج فإنه بطل رئيس في القصة أيضا، حيث سيحضر في مواقف مفصلية في حياة الأبطال،وكما لو أنه عنصر حي، تحديدا مع ليلى التي يكون الثلج بطلا لمواقف مفصلية في حياتها. لودميلا هنا هي التحول الذي عصف بقوة بالبلد، ونتج عنه سيل من الانهيارات، كما سنشاهد في الرواية.
كتبت كفى الزعبي من قبل روايتين هما “سقف من طين” و”عد إلى البيت يا خليل”.
كانت روايتها الأولى “سقف من طين” بمثابة سيرة ذاتية، حيث تتبعت فيها الخيط الذي يشدها نحو الطفولة، إلى تلك المراحل التي تشكل الملامح الأساسية للإنسان وتظل ترافقه على مدار عمره.
أما رواية “عد إلى البيت يا خليل”، فقد نسجت عبرها تساؤلاتها حول أزمة الهوية الفلسطينية، من فكرة الإنتزاع وتجريد الفرد من (المكان ـ الوطن) وبالتالي تجريده من قيم أخرى يسبب وجودها الفقد المعنوي والمادي. تقول في أحد حواراتها: رواية “عد إلى البيت يا خليل” تتناول القضية الفلسطينية من الجانب الإنساني وتطرح سؤالاً أخلاقياً: كيف يمكن للإنسان الذي سُلب منه كل شيء وتضمخت ذاكرته بالدماء أن يحافظ على الملامح الإنسانية في وجهه”.
من خلال عناوين رواياتها والموضوعات التي تعالجها، يلمس القارئ محاولة الزعبي طرح تساؤلات حول هواجس داخلية في أعماق النفس، سواء كان ذلك عبر طرق موضوع الطفولة وكتابتها في سيرة ذاتية، أو اختيار قضية “الفرد الفلسطيني” لتتناولها عبر عمل روائي.
جاءت رواية “ليلى والثلج ولودميلا” في 550 صفحة من الحجم المتوسط،وهي رواية ملحمية كلاسيكية، تعيد الاعتبار للشكل التقليدي للرواية القائم على السرد الخارجي عبر راوىٍٍ عليم، يشاهد تفاصيل حياة الأبطال والشخوص الكثيرة، خاصة وأن الرواية تتناول حقبة انهيار الاتحاد السوفيتي، وما تلا ذلك من تحولات وانهيارات إجتماعية وأخلاقية في المجتمع الروسي. إن غالبية أبطال هذا العمل الروائي من الروس، فيما عدا بطلين رئيسيين هما “ليلى” الطالبة الجامعية التي تدرس الطب وعليها أن تنهي دراستها وتعود إلى وطنها و”رشيد” وهو أيضا طالب عربي شيوعي يجمعه مع ليلى في البداية الإنتماء لبلد واحد، ثم يتحول إحساس الانتماء من طرفه إلى حب جارف يحاول أن يطوق ليلى به. أما سائر الشخصيات في الرواية فهي روسية، فتكشف الكاتبة عبر كل شخصية إحدى الجوانب الإجتماعية التي طالتها شروخ عميقة، ليس على المستوى الإقتصادي فقط، بل النفسي والأخلاقي أيضا. وربما يتضح هذا أكثر في جانب الشخصيات الروسية التي تناولتها الكاتبة، إذ بدا التركيز في تحليل بعدها النفسي أكثر عمقا. تقول عبر شخصية لودميلا في إحدى الحوارات مع ليلى: “لا أعرف كيف هم الآخرون، لكني أشعر بنفسي مكونة من شقين: شق أبيض يمثل الفضيلة والأخلاق، وشق أسود يهيم بالمال وعلى استعداد لأن يضحي بكل شيئ في سبيله، وللأسف فإن لشقي الأسود السلطان الأقوى علي.أنني أكره الفقر والحرمان. إن بي شوقاً دائماً للحياة الجميلة. أريد أن أشبع حتى التخمة كل رغباتي، وأتحرر من الإحساس الفظيع بالحرمان. اسمعي، ربما كلامي هذا يجعلك تحتقرينني. يؤسفني ذلك بالطبع غير أني لا أستطيع مناقضة نفسي”.
يتمكن قارئ هذه الرواية من ملاحظة تأثر الكاتبة بالثقافة الروسية، خاصة وأنها أمضت في روسيا ما يقارب عشرين عاما، ودرست الهندسة هناك. ويلمس القارئ هذا التأثر عبر الشخوص والحوارات المنتشرة على مدار الرواية، فالحوارات في غالبيتها تناقش حالة نفسية، أو قضية تحمل صراعا، ولعل هذا التأثر ساعد في تكوين الرؤية الثقافية والجمالية التي بنت من خلالها كفى الزعبي روايتها، وهي توضح حضور الثقافة الروسية في تكوينها المعرفي قائلة:
“أنا متأثرة بكل ما قرأت من أدب جيد وحقيقي سواء الروسي أو العالمي أو العربي. فالثقافة الروسية هي من الغنى بمكان بحيث لا يمكن أن تمر مرورا عابرا على الشخص الذي يتعرف عليها.. إنها بحر غني يقف المرء أمامه ولا يرى حدا للأفق، أقصد أفق الإنسان الداخلي الذي يتجلى بإبداعات عظيمة في الفكر والأدب والمسرح والموسيقي والفنون جميعها. ولا أدعي هنا أنني على إطلاع بكل الثقافة الروسية لكن القليل وربما القليل جدا قياسا بغنى هذه الثقافة كان كفيلا بتشكيل الجزء الأعظم من رؤيتي الجمالية للعالم التي انعكست بطريقة ما على ما أكتب. ”
إن حضور أثر الأدب الروسي يظهر أيضا في بعض الفقرات، حين تقول مثلا :”لأول مرة في حياته شعر بجاجة ملحة إلى الله. لو إنه الآن يركع ويصلي باكيا ويطلب من الله الخلاص، فتتدفق غلالة من نور وتغمره وتتسرب إلى مسامات روحه”. تحاكي هذه الفقرة مناجاة مشابهة في رواية “آنا كارنينا” لتولستوي. أما في المقطع الذي تصف فيه الكاتبة حيرة ليلى بين رشيد وأندرية حين تقول
“يا ليته كان رشيدا، ويا ليت رشيدا كان هو”. فهذا المقطع يذكرنا بقصة “الليالي البيضاء” لدوستويفسكي، التي يحضر فيها جو عاطفي حائر أيضاً.
زمن التحول
لكن رواية “ليلى والثلج ولودميلا” لا تبدو مشغولة بالحديث عن الفروق الثقافية أو الفكرية بين الثقافتين العربية والروسية فقط، كما اعتدنا على وجود هذا الجانب في الكتابات العربية التي تحاك تجربتها بين ثقافة عربية وأخرى غربية، إن هذا الجانب يأخذ حيزاً من السرد فقط، تحديدا في المونولوج الداخلي لليلى أو في حواراتها مع إحدى الشخصيات التي تستفسر منها عن الواقع العربي، كأن تقول :”كانت تعي أن حالتها ليست حالة نمطية، وأنها لا تعتبر نموذجا للنساء العربيات، وأن الذي جاء بها إلى روسيا ليس إيمان أبيها بحرية المرأة أو بحريتها هي -ابنته- وإنما قرارا عبر في لحظة زمنية، وهو ما سيندم عليه فيما بعد، سيندم على ارتباطه العاطفي، العاطفي وحسب-بالشيوعية….ظل يرد على الذين استهجنوا هذا القرار قائلا: أنا لا أبعثها إلى بلد غريب، بل إلى الإتحاد السوفييتي، حيث ستكون بين أيدي رفاقنا السوفييت”.
تشغل فكرة التحولات والإنهيارات النفسية والإجتماعية جانباً أوسع من السرد، هذا ما نجده عبر شخصية “لودميلا” وهي إحدى الشخصيات المحورية التي تتصدع علاقتها مع زوجها بسبب الفقر ومراهناته المالية الخاسرة، فتندفع في علاقات أخرى لتؤمن لها حماية مالية، أما “لاريسا” المرأة الأربعينية التي حققت من النجاحات المالية ما عجز عنه الرجال، ثم خسرت كل أموالها وصحتها بعد علاقة مع شاب يصغرها استولى على كل ما تملك. إن انهيارها التام في عمر متقدم ينطوي بالرغم من واقعيته على مدلول رمزي. وهناك أيضاً “مكسيم نيكولافتش”، زوج لاريسا، المثقف الذي انهارت أحلامه مع انهيار البروسترويكا، ومع انهيار زوجته المالي والمعنوي، فانتقل للإقامة في الشقة التي تسكن بها لودميلا، وليلى، ونتاشا. من هنا لا تخلو مصائر الأبطال جميعا في “ليلى والثلج ولودميلا” من الانهيار أيضا، فثمة تحولات تعصف بأقدارهم، وتلقي بهم على أراض يغمرها الثلج في ليل شديد البرودة يجبرهم على البحث عن فرص مختلفة للنجاة بأنفسهم.
إن تناول الكاتبة كفى الزعبي عبر هذه الرواية مرحلة انهيار الفرد السوفيتي، وتهافته على الفكر الرأسمالي كما لو لو لم تكن السنوات الطويلة للفكر الشيوعي، يحمل في طياته عدة رؤى سياسية ونفسية وإجتماعية وأدبية. فالتحول الفكري السريع في المجتمع الروسي يحمل إشارات عن التركيبة النفسية “للإنسان” ككل، عن ولعه بالحياة المترفة، فالتحول لم يأت من الفراغ، لأنه كان كامنا في الداخل حتى تحين أول فرصة للخروج والتعبير عن نفسه، ليصير التركيز على الواقع المادي جزءا من المنظومة الفكرية عند الفرد الروسي. ونتج عن ذلك انعكاسا مباشرا على النتاج الأدبي. وبإمكاننا بسهولة ملاحظة غياب الأدب الروسي عن الحضور العالمي بعد أن كانت له مكانة مكرسة. ولعل هذه الفكرة تحديدا توضحها الكاتبة كفى الزعبي قائلة:
“أدى انهيار الاتحاد السوفييتي إلى رداءة المنتج الثقافي نفسه, وطغت في السوق أعمال سواء أدبية أو فنية ذات مستوى ركيك تعكس حالة الانفتاح والتوجه إلى الاهتمام بمواضيع براقة تخطف أنظار القراء والمشاهدين، كالتركيز على الجنس وعلى الأعمال البوليسية وغيرها… وبشكل عام فإن أبطال هذه المرحلة كانوا من غير المثقفين الذين لا يملكون مشروعا إنسانيا, ولا أخلاقيا بقدر ما يبحثون عن الربح السريع والشهرة, في حين كان المثقفون في الظل يتضورون جوعا وألما مما يجري ولا يملكون الوسيلة أو المقومات التي تساعدهم على لعب دور ما أو إيصال فكرهم لأحد.”
———–
* ليلى والثلج ولودميلا ؛ رواية ؛ كفى الزعبي ؛ المؤسسة العربية للدراسات ؛ بيروت
د. لنا عبد الرحمن