“قمر على سمرقند” توق الرحيل في مواجهة الأسئلة

 

كأن الرحلة لن تنتهي، والمدينة الغامضة التي تُخفي حكاياتها بين عشب ضفاف الأنهار، وخلف الأسوار والشوارع ، وفي قبة مأذنة غير مكتملة؛ تزيد من التوغل في تلك المتاهة اللذيذة،هكذا تبدأ رحلة بحثٍ طويلة  من مصر إلى سمرقند، يخوض غمارها الطبيب المصري “علي” بحثًا عن إجابات لتساؤلات تُعذبه. تبدو هذه الفكرة الرئيسة في رواية ” قمر على سمرقند” للكاتب محمد المنسي قنديل؛ ومنذ الصفحة الأولى للرواية التي بلغت (569صفحة )يتمكن الكاتب من الاحتفاظ بقارئه حتى النهاية،إذ تميزت الرواية بالترابط المحكم في الحبكة، مع سلاسة في الأسلوب واللغة، تمنح القارئ متعة الاستغراق في القراءة. يفرض عنوان الرواية منذ البدء حضور مدينة تحمل تاريخًا زاخرًا بالحكايات والأبطال والحروب،ماض عتيق وزاخر يستدعيه الاسم ولوحة الغلاف التي لا تنفصل عن العنوان والمضمون بواجهة جامع ” بيبي خاتون” في ميدان ريكستان في سمرقند.

بيد أن الرحلة إلى “سمرقند” لن تتم بتلك السهولة، بل سيسبقها مغامرات كثيرة يتداخل فيها الواقعي بالأسطوري، الحقيقة مع الخيال والأحلام مع الكوابيس، فلا يمكن نكران أيّ شيء مما يحدث، كما لا يمكن تأكيده.وكما لو أن كل هذه التفاعلات القصصية المتلاحمة بين تاريخ مضى، وحاضر معاش، وافتراضات متخيلة، ينبغي أن تحضر في هذا النسيج الغامض لتكمل أسطورة “الرحلة- المغامرة”، حيث لا يمكن للبطل أن يصل إلى غايته من دون أن يتكبد عناء خوض عذابات مضنية تتوارى مع أهمية الوصول لمراده.

تنقسم الرواية إلى فصول، تحمل بعضها عناوين وهي ” حكايات السهوب” ” و ” حكايات بخارى” و”حكايات سمرقند” و ” حكايتي أنا”. وتشغل قصة نورالله وماضيه، وماضي مدينة بخارى وطشقند الجزئين المعنونين “بحكايات السهوب” و ” حكايات بخارى”،وعلى مستوى السرد في هذين الجزئين ، يمتزج  صوت الراوي  ” علي”، مع صوت راو عليم، وصوت نورالله.

 

(2)

تبدأ الرواية في مدينة “طشقند” عند موقف سيارات الأجرة ،مع الطبيب المصري  “علي” وهو يبحث عن سائق ينقله إلى مدينة “سمرقند”، وخلال انتظاره وسط الزحام وضجيج السائقين وطمعهم يلتقي مع رفيق طريقه “نور الله”، رجل أوزبيكي  يتحدث العربية بطلاقة وملامحه “أشبه برسم خيالي لشخصيات من الأسلاف الغابرين”الرواية ص7. يقدم نورالله نفسه على أنه سائق يعرض أن ينقل علي  إلى سمرقند، لكن ليس هذا الوجه الوحيد  الذي يتكشف عن نور الله فهو: دارس للتاريخ، وعارف بمصر، وعليم بالعربية، وانطلاقًا من لحظة ظهوره يبدأ المنحى الأسطوري في التشكل، وكأننا هنا أمام إحدى حكايات ألف ليلة وليلة، حيث يغادر البطل بلدته بحثًا عن غاية ما، قد تكون تميمة، أو رقية، أو كنز، أو سر عتيق، وقبل أن تبدأ رحلته يلتقي برفيق مجهول، لا يعرف هويته، ولا من يكون، وأي قدر ستخبئ له رفقته، لكنه يصر على البقاء معه. من هذا المنطلق يمضي “علي” مع “نور الله”، رغم ما يصادفه معه من متاعب منذ بداية الرحلة تفرض عليه التفكير بالتراجع عن صحبته، إلا أنه يتمسك بصحبته؛ كما لو أن “نورالله” بحد ذاته صار لغزًا كبيرًا يُحير “علي” وينبغي عليه سبر غواره قبل أن يمضي إلى غايته الأولى؛ ولعل هنا تحضر مقولة ايزابيل اللندي ” ذهبنا نبحث عن شيء فوجدنا شيء آخر” التي تنطبق على حال البطل “علي”.

لا يعرف القارئ سر الطبيب المسافر إلى سمرقند، ولا  تتكشف حكايته إلا في الثلث الأخير من الرواية، حيث تشغل حكاية “نورالله” أكثر من نصف الرواية، ورغم هذا الانعطاف نحو حكاية أخرى، وتفاصيل تُبعد الذهن عن الانشغال بالهدف الحقيقي من وراء سفر “علي”  إلى سمرقند،فإن شخصية “نورالله” وحكاياته الخفية ، وما يحيط به من غموض يمنح النص ثراء متوازيًا مع قصة “علي” التي ستنكشف فيما بعد.

لا تمضي الرحلة نحو سمرقند مباشرة، حيث ينعطف نورالله بسيارته نحو ” بخارى”  مدينة تصر على البقاء وتقاوم العدم، تمتد أسوارها عبر مدارات الشمس إلى حافة نهر زرافشان ؛وحين يصل الرفيقان إلى “بخارى”، يكتشف “علي” أن “نور الله”، الذي رافقه طوال الطريق وخاض معه مغامرة في مخيم الغجر،ومحاولات هروب جنونية من الشرطة، ليس مجرد سائق عابر التقى به في موقف عمومي. وضمن فصل ” حكايات بخارى” يبدأ الكاتب في إماطة اللثام عن هذه الشخصية، فهو شيخ يصلي إمامًا بالناس، وما إن عرف أهالي البلدة بوصوله حتى سارعوا إليه ليأخذوا منه البركات،ويطرحون عليه الأسئلة ليقدم لهم الإجابات عن أمور دينهم ودنياهم، فمن هو نورالله هذا؟

يطرح “علي” سؤاله على رفيق رحلته قائلًا : ” لقد قبلت المخاطرة معك،واختبأت في سيارتك تحت الجسور، وعرضت نفسي لمساءلة الشرطة، وحتى وجهة سفري غيرتها لأصحبك إلى هنا، من حقي بعد هذا كله أن أعرف القليل عنك”. ص107

لعل هذا السؤال يرتبط كثيرًا بحكايات ألف ليلة وليلة مع هاجس المجهول ورغبة الكشف، رغم اختلاف تيمة الروي وطرائق السرد، إلا أن طبيعة الأجواء الأسطورية المسيطرة على الرحلة، والمتزامنة مع نشوء صلة ما بين ” علي” و “نور الله” تسمح لأحدهما  بالبوح،وتشجع الآخر على السؤال، وهذا ما نقف عليه كثيرًا في حكايات ألف ليلة، حين يحكي أحد الأبطال حكايته لصاحبه، من دون الظن بأن “المروي له” يحمل حكاية أخرى لا تقل التباسًا وتشعبًا عن الحكاية الأولى.

 

(3)

تتبع الرواية منذ الصفحة الأولى خطوات الطبيب “علي” في رحلته الغامضة، نحو بلاد غريبة، وتستدعي تلك الرحلة تساؤلات كثيرة عن السبب الملح في مغادرته بلده ليمضي إلى سمرقند، ويتحمل كل هذه المعاناة. بيد أن هذه الأسئلة سرعان ما تتراجع إلى خلفية السرد، حين تنسال حكايات نور الله، وعوالمه المتداخلة أيضًا مع تاريخ مصر، خاصة حين ينعطف نورالله خلال سرد حكايته ليحكي عن لقائه مع الرئيس عبد الناصر خلال زيارته مع وفد من العلماء السوفييت المسلمين، بل إنه يتحدث مع عبد الناصر مطالبًا إياه بالإفراج عن سيد قطب قائلًا له ” إنه شيخ كبير”. فيرد عليه الرئيس بأنه غير مسموح له بالتدخل في شأن داخلي. لكن ما علاقة هذا الحدث بحكاية الطبيب علي؟. ربما لا تبدو العلاقة مباشرة أو واضحة في البداية لكن حكاية “علي” تتقاطع في بعض مواضعها مع حكاية “نورالله”..

يغادر “نور الله” قريته في “وادي فرغانة”، ليلتقي مع “صنو روحه، وتوأم نفسه الشقيّة” “لطف الله” الذي سيكون له أكبر تأثير في رحلته التي سيبدأها في المدرسة الدينية ” مير عرب” التي حملت اسمها من أمير عربي جاء بالإسلام إلى سمرقند. تشغل شخصية “لطف الله” جانبًا مهمًا من السرد، فهو ينحدر من قبيلة جاءت من قريش، وظلت محافظة على نقاء عرقها عبر التزاوج من داخل القبيلة، ويفتخر “لطف الله” بجده الذي عاد بالمصحف العثماني من متحف بطرسبورج في موسكو، لذا ها هو يسير على خطى عائلته بأن يدرس تعاليم الدين في ” مير عرب” ويصير شيخًا معممًا، هذه الملامح الأساسية في تكوين “لطف الله”، الصلب والواثق من نفسه وأصوله ستكون في موضع آخر من الرواية في مواجهة نورالله الأوزبيكي الفقير القادم من إحدى القرى البائسة،  والذي سيصبح مفتيًا للبلاد،ستجمع بين “نورالله” و ” لطف الله” صداقة وثيقة في “مير عرب”، وستفرق بينهما تبدلات أحوال السياسة في البلاد.

فالرواية التي تقدم حيوات أبطالها، وصفاتهم الجسدية والنفسية، تقدم بالتوازي أيضًا ماضي تلك الأرض الحافلة بالتاريخ الديني والسياسي؛ منذ بداية الحروب مع القيصر الروسي بطرس الأكبر الذي دفع بجيوشه وجنرالاته إلى تلك الأرض الغضة،لكنه انهزم في أولى المعارك وفي وسط  متاهات الأنهار المتشابكة والكثبان والأحراش المنزلقة، ولم يجد الروس بدًا من التراجع، لكنه كان تراجعًا مؤقتًا”ص119؛ ثم تكون الهزيمة التي ستُسقط طشقند، وبخارى، وسمرقند في يد “الدب الروسي”، ويكون على “نورالله” أن يبحث عن سبيل للنجاة، هكذا يفكر في ” مير عرب” هناك يجد ملاذه في القرآن، وضالته في اللغة العربية، ومحاولة فك طلاسمها الغامضة.

ضمن هذا الجزء من السرد تبدأ الإجابات في التكشف حول شخصية “نورالله”،صاحب اللسان العربي الفصيح، الذي يهابه أهل بخارى، ويطلبون بركاته. تعكس علاقة “نورالله” بالقرآن وباللغة العربية، مدى العطش الديني عند تلك الدول التي حكمتها روسيا، محكمة قبضتها الشيوعية عليها،ولعل هذا سيظهر أكثر مع شخصية “لطف الله”، الذي يختار الموت على الاستسلام للنظام الحاكم بعد سقوط الشيوعية، إذ يطالب “لطف الله” بتطبيق الشريعة الإسلامية ويقوم هو وبعض رجال الدين من الشباب المتعصبين بالاستيلاء على بعض مقار الحزب الشيوعي التي خلت بعد رحيل السوفيت واعتصموا بها..وأعلنوا أنهم يريدون دولة تقوم بتطبيق الشريعة الإسلامية،بل واختاروا لها اسمًا أيضًا “إسلامستان”الرواية ص 260

يمثل “لطف الله” الوجه الآخر من شخصية ” نور الله”، هو الشيخ الملتزم المتمسك حرفيًا بتعاليم الدين الإسلامي، هذا التمسك الذي سيتطور فيما بعد ليكون تطرفًا، أما “نور الله” فقد أُجبر على التعاون مع السوفييت، وكان يكتب التقارير عن رفاقه، تقارير لم تكن تُرضي أهل الحكم لكنها جعلته يتقلد أعلى المناصب الدينية (مفتي البلاد). هكذا يكون على “نورالله” أن يذهب إلى صديقه القديم ” لطف الله” ليقنعه بضرورة التراجع عن أفكاره، وحين يعجز عن إقناعه، يُطالب بأن يوقع على فتوى تجيز إعدام “لطف الله” ومن معه.

أمام هذا الحدث يتراجع “نور الله” عن استسلامه لأحضان السلطة، يتمرد، ويرفض التوقيع،صارخًا في وجه الوزير الذي يعرض عليه الصفقة : ” لن أوقع هذا البيان الجائر..لا يوجد فوق رأسي سوى السماء،ولن أقتل أحدًا باسم كلمات الله”  ص 289.

سيدفع “نور الله” ثمن هذا الرفض من حاضره، ومستقبله، هكذا سيتم نفيه خارج البلاد(إلى موسكو)، سيعيش فقيرًا ومعذبًا في الغربة، لكنه في لحظة فاصلة يقرر العودة إلى بلده، ليواجه مصيره أيًّا كان. لنقرأ :  ” كانت عجلة الدولة قد دارت بدوني، وتخلصت من أعدائها من دون معاونتي…تجولت وبحثت عن عمل، وقُبض عليّ أكثر من مرة،أحيانًا يضعوني في زنزانة،وأحيانًا يُكتفوني بإيقافي لبضع ساعات،مهما فعلوا كنت متواجدًا في المكان،بدون عمل، ولا أيّ مهارات، مجرد مفتي سابق. لم يكن أمامي إلا العمل على هذه السيارة، أطوف هاربًا على المدن،أعيش على هوامشها غالبًا،وأعيش في قلبها أحيانًا، وأدفع الثمن في كل حين، وهاأنا ذا.” الرواية ص 296.

ضمن هذه العلاقات الشائكة،تشكلت حياة “نور الله”، ونتيجة تحولات حياته الكثيرة يعيد تكوين رؤيته للحياة، التي تبدو خلال كثير من الأحداث متحررة من سلطة الدين على شخصيته، رغم كونه شيخ سابق، ومفتي للبلاد، إلا أن طبيعته المتعطشة للمغامرة، تغلب على العفة، والتخلي عن ملذات الحياة.فالحدث الأول الذي ربط “علي” به كان مغازلته لإحدى النساء خلال فرح تواجدا فيه بالصدفة، بل إن المغازلة تتطور لعلاقة عابرة تؤدي إلى فضيحة تورطهما في مشكلة كبيرة تعطل سفرهما إلى “سمرقند”.يقول “علي” : ” لم أكن لأتركه،أشعر فجأة أنني غير قادر على تركه، لا أحس بالضربات التي توجه إليّ من كل مكان، لا يكف هو أيضًا عن الدوران، محاولًا حمايتي من الضربات…ترى أين السماء؟ وأين “نور الله”؟ وأين تبددت لحظات النشوة؟. الرواية ص 30.

 

(4)

بعد وصول “علي” إلى سمرقند، يتضح أنه يسعى للقاء صديق قديم لوالده، جنرال روسي عجوز يدعى “رشيدوف”، يظن أن والده الراحل ترك لديه أسرارًا لم تُكتشف.لذا يمضي “علي” في رحلته ليعثر على إجابات لكل أسئلته الحائرة، لكن مرة أخرى بدلًا من أن يمضي “علي” نحو  هدفه،فإنه يسلك طريقًا فرعيًا آخر بعد أن يجد “رشيدوف” حزينًا على فقد ابنته التي خطفها ليل سمرقند. يتبرع ” علي” بالعثور على الابنة الشابة، ويخوض مغامرات ليلية برفقة “طيف” التي شاهدها أول مرة تتضرع تحت قبة ” بيبي خاتون”، ثم عرف أنها تعمل نادلة في الفندق الذي يقيم فيه. تتصاعد الأحداث بينهما فيدخل معها في علاقة، هو لا يعرف عنها أشياء كثيرة، وهي لم تبح له عن ماضيها؛تحكي له حكاية “بيبي خاتون” التي تُمثل  رمزًا للعشاق في مدينة سمرقند، هي معشوقة تيمورلنك وزوجته التي فضلت عليه معماري شاب، فقتلها “الغازي الأعظم” هي ومحبوبها قبل أن يكتمل بناء القبة. لكن “علي” يرى أن روح ” بيبي خاتون” بعثت من جديد في جسد “طيف” يقول :  كانت “بيبي خاتون” تعطيني جسدها من خلال “طيف”، تخترق الزمن ليبعث بين أحضاني فتيًا ومفعمًا بالبراءة.”ص 387.

تتقاطع حكاية “بيبي خاتون” التي ترويها “طيف”، مع ذكريات “علي” عن ماضيه، وعن علاقته المضطربة بأبيه الرجل العسكري الصارم، الذي يتحدى الرئيس ويرفض معاهدة “كامب ديفيد”، وتكون نهايته غامضة بعد العثور على جثته طافية على ضفة النهر. لكن “علي” بعد هذه الرحلة الطويلة لا يجد إجابات لأسئلته،  التي تظل معلقة في مكانها، لكن حتمًا ثمة أمور تغيرت في داخل “علي” نفسه، في رؤيته لماضيه، لعلاقته مع أبيه، يقول  ” لقد رأيت أشياء لم أكن أراها،وفهمت الكثير من الأمور كان من العسير عليّ أن أفهمها من قبل، هناك شيء ما يجب أن يتغير، ويجب أن يحدث هذا الآن، ربما ” سمرقند” و ” طيف” قد أعطياني الإجابة عن أسئلتي الحائرة”ص 566.

وفي مشهد “ميلودرامي” يكتشف القارئ أن “طيف” هي ابنة “نور الله” وأنها تقيم في سمرقند بعد أن تخلى عنها خطيبها إثر القبض على أبيها ومطاردته من قبل الحكومة، ثم فراره. هكذا تتشكل صلة أخرى بين “علي” و ” نورالله” حين تجمعهما “طيف”، لكن الصلة هذه المرة تتحول إلى غضب شديد وعراك مع وصول “نورالله” إلى الفندق، وصعوده إلى غرفة صديقه، كي يجد ابنته في سريره. تتحول الأحداث بعد هذا الموقف بينهما مع صفعات “نور الله” على وجه “علي”، واختفاء “طيف”.

تبدو شخصية ” علي” متلقية أكثر مما هي فاعلة ؛ فهو في كثير من الأحداث يستسلم لقدره لبرهة قبل أن يستعيد قوته ويمسك دفة حياته من جديد، وهذا نتيجة تراكم سنوات من الخوف والفشل الداخلي في تحقيق رغباته الشخصية، فقد أجبره والده على الدخول إلى الكلية العسكرية ظنًا منه أنه يحميه من الأخطار يقول له ” لا أريدك أن تدفع ثمن المنصب الحساس الذي أشغله، أدرك أني لا استطيع أن أبقيك تحت الحراسة طوال عمرك، ولكني على الأقل استطيع أن أرسلك إلى مكان آمن” ص 445.

لكن “علي” فرّ في اللحظات الأخيرة ويتقدم بأوراقه إلى الجامعة ليدرس الطب، لكن حتى هذا الاختيار لم يكن قراره بل قرار ” سلمى جوهر” البنت التي التقى بها في الجامعة، ثم أحبها، لكنه يفشل أيضًا في علاقته مع “سلمى” التي يعجز عن تقديم الحماية لها. أما علاقته مع ” فايزة” ابنة أحد الضباط من أصدقاء أبيه، فتبدو أكثر تركيبًا من الجانب النفسي، ” فايزة” المتحررة الجريئة، أرملة في ريعان شبابها، تكشف ” لعلي” عن تعرضها لاعتداء جنسي من أبيها الجنرال. تتشابه عذابات   “فايزة” مع  أحزان ” علي” ولعل هذا ما جمع بينهما أكثر من العلاقة الجسدية التي سعيا إليها. بيد أن الدلالة الرمزية لحكاية “فايزة”،تنطوي على كشف عن الغضب الكامن نحو النخبة السياسية والعسكرية في ذاك الوقت، جسد “فايزة” المغتصب من قبل الأب ليس إلا جسد مصر المهزوم بعد النكسة، وبعد اتفاق كامب ديفيد.

 

(5)

استطاع الكاتب أن يوظف الأسطورة في المتن الروائي  في أسلوب ينسجم مع السرد،فلا تبدو مقحمة أو دخيلة على الحكاية بحيث تبعث الملل، بل إنه تمكن من تفعيلها لتُشكل جزءا كبيرا من الحكايات.أول أسطورة تحضر في الرواية ترتبط بالغجر، وحقيقة قدومهم من مصر، لكن أسطورة الغجر تقول أنهم قدموا إلى مصر يحملون علومهم من طب، وتاريخ، وحدادة، إلا أن المصريين لم يتقبلوا عدم انصياع الغجر لحرفة الزراعة التي يعتبرونها مصدر كل حياة،أما الغجر فهم أحرار من الارتباط بالأرض، لذا طاردهم فرعون حتى حافة البحر الذي يفصل مصر عن العالم، ودفعهم نحو المياه المتلاطمة، فغرق معظمهم،لكن ثمة شاب وفتاة غجريان نجوا من الغرق، واصلا لعبة الحياة وولد من نسلهما غجر جدد ما يزالون مستمرين في الرحيل.

أما أسطورة مدينة ” بخارى” مع ” جنكيز خان”، فبعد أن تقدم جيش هولاكو إلى المدينة وأمر جنوده بإحراق كل شيء فيها، امتلأت الساحة الواسعة أمام مسجد “مير عرب” بأكوام من الجثث، ورغم محاولة الجيش إحراق المسجد إلا أن الطلبة والعلماء والدراويش سدوا المداخل بأجسادهم، فتلاصقت جثث القتلى مع الواقفين أحياء، ونفرت الخيول ولم تستطع الدخول ” وعندما تركت الجيوش المدينة، ظلت الجوارح تحوم في سماواتها خمسة عشر شهرًا كاملة،وامتدت رائحة الجثث المتحللة حتى أطراف صحراء العطش..استردت بخارى أنفاسها من خلال أنفاس الموت”ص 118.

وينسجم توظيف الأسطورة في “قمر على سمرقند” مع الشخصيات والأجواء الخاصة بالجزء الذي يتناول بخارى وسمرقند وحكايات “نور الله”، فيما يغيب الجزء الأسطوري حين يتحول السرد نحو “علي” ليحكي قصته وأسباب قدومه إلى سمرقند. بيد أن ما ينبغي الإشارة إليه أن استخدام الأسطورة لا يحضر في الرواية من جانب الخوارق أو الأمور اللامعقولة، بقدر ما يعكس الرغبة في البوح عن تاريخ الأماكن وحكايات أهلها، وأسباب تشكل معتقداتهم التي استمرت معهم  من أيام الأسلاف وحتى اليوم. وإذا كان هذا النزوع الأسطوري التاريخي يحضر في مساحات غير قليلة من النص، بل إنه ينعطف من الحكاية الرئيسية ليدخل في حكاية أسطورية كما في حكاية ” بيبي خاتون”، فإن التقنية الفنية التي استند إليها الروائي في نسج الحكاية بأسلوب مشوق منح القارئ مساحة متفردة من الخيال والرغبة في اكتشاف المزيد عن أماكن لا يعرفها يرد ذكرها في النص، وحكايات يتداخل فيها الجانب التخيلي مع التاريخي والأسطوري.

——-

* قمر على سمرقند ( رواية) – محمد المنسي قنديل – طبعة دار الشروق – القاهرة 2013

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى