سارة عابدين.. الكتابة والعالم في “ابتلع الوقت”

 

في مجموعتها الشعرية الجديدة”ابتلع الوقت” لا تغادر سارة عابدين عالمها المألوف الذي قدمته للقارئ في ديوانها الأول “على حافتين معا”، بحيث يبدو الديوان الجديد استكمالا للتساؤلات الحياتية التي تعايشها الشاعرة وتفرض نفسها على عالمها.

يحيل عنوان “ابتلع الوقت” ( دار روافد بالقاهرة ) إلى صورتين متناقضتين في تجاور فعل “ابتلع” مع كلمة “الوقت”، لتكون الصورة الحقيقية لفعل الابتلاع ليست إلا وهما في ضياع الوقت لأنه غير ممسوك. الوقت هنا هو الزمن الممتد والهارب في الوقت عينه، الذي يلعب لعبة التخفي والمراوغة بين ثقل الوجود الحقيقي على الأرض، وبين التسلل إلى عوالم بعيدة غير مرئية لكنها تفرض حضورها الضمني.

ننقسم المجموعة الشعرية إلى جزأين، الأول “في البيت”، والثاني “فاصل قبل نهاية العالم”. في الجزء الأول  تنشغل سارة عابدين بالمفردات الصغيرة لعالمها: البيت، المطبخ، الستائر، الأرائك، كوب نسكافيه، الأطباق التي تحتاج إلى غسيل وتسبب إحساسا بالثقل، السجادة المليئة بالبقع، والسجادة الجديدة التي تبعث البهجة، والشباك الذي تنقذف منه الأحلام لنقرأ:

“أنا أكتب لأني لم أستطع أن أغير العالم

لم أستطع حتى أن أغير السجادة فاتحة اللون

التي تظهر بها كل البقع الصغيرة”

أما في الجزء الثاني تواجه الشاعرة  فيه العالم بسخرية مريرة، بالتوازي مع هذا تحضر أيضا صورا متماثلة تطغى فيها فكرة الموت التي تتردد في كثير من القصائد:

“كابل الكهرباء المفتوح يهمس أن الموت قريب

الموت يبتلع الحياة ولا يتجشأ ما تبقى

الموتى لا يعودون من هناك

النافذة التي سقط منها الشاب العشريني

تؤكد أن الموت قريب”.

يمكننا أن نقرأ قصائد هذه المجموعة الشعرية باعتبار أن الهاجس الذي تقدمه عابدين ينحصر في تشظي الذات داخليا إلى ثلاث ذوات هي الذات الأنثوية الأصلية، والذات الأمومية الخائفة والمنهكة، والذات الكاتبة المقاومة التي تهجس بجنون بكل ما يدور في عالمها الصغير.

إن وجود هذه الذوات الثلاث في القصيدة، يعكس صراعا ما، ويكشف عن مرارة الإحساس بالخذلان، ليس من جراء تصادم الذوات وسيطرة إحداهما على الأخرى في كل مرة، بل من جراء وجود خيبة كبيرة وخذلان مشترك تتقاسمه الذوات الثلاث، وتدركه جيدا ولا تتمكن من نفيه بعيدا، كما لو أنه كرة لاصقة ألقى بها العالم في حضن الشاعرة، حيث لا تنفصل الذات الأمومية عن إدراك ألم فعل الأمومة ومأساته الأعمق في الوعي أن هذا الفعل ينطوي على مشاركة في وجود كائنات لا تتمكن الذات الأم من حمايتها بالشكل الذي تريده، لذا نجد معظم الصور التي يقدمها الديوان فيها تشريح للذات فيه لوم مستمر على أشياء لا يمكن أن تتغير، كما لا يمكن العودة للوراء  للإمساك بالزمن، هذه المراوحة تترك إنهاكا موجعا من رؤية التفاصيل المألوفة للحياة، كأن تقول:

“الأتربة وعوادم السيارات، وضوضاء الجيران،

والمياه المتساقطة على حبال الغسيل

أنهكت سلامي الداخلي”.

أو أن تقول في قصيدة “أبحث عن طريقة لشرب الماء”:

انزلقت على أرضية المطبخ المبللة

سقطت أجزاء مني وبعض الذكريات وقرط كبير

هو ما تبقى لي من سقطات سابقة

أرفع نفسي ولا أهتم لالتقاط ما سقط

أجفف الأرضية سريعا

المطبخ صغير ولا يحتمل

ذكريات وأعضاء مبعثرة.

يمكن وصف قصائد سارة عابدين من خلال البنى التعبيرية التي تختارها بأن فيها خصوصية  تميزها وتمنحها ديمومة حقيقية وصادقة في غياب المسافة بين الكتابة والعالم الحقيقي، الكلمات عندها جزء من عالمها، ليست كله، هناك البيت بكل ما فيه من تفاصيل كثيرة، جميلة وموجعة، هناك الأمومة بكل فرحها وآلامها، وهناك أيضا قلب يراقب السماء عبر النافذة المفتوحة، ويلاحظ التحول الذي يحدث في فضاء العالم، قلب خائف من الانتظار والفقد؛لكن  هذه التفاصيل التي تُكون الذات تنصهر في النهاية ضمن بوتقة جمالية واحدة لتشكل القصيدة.

لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى