تطويق الزمن
تخترق كل الجدران الصباحية عبارة يختارها ابني من أحد عوالمه فيسألني سؤالاً وجودياً محيراً مثل: «هل السمكة نيني تعرف الديناصور؟»، ويكون لزاماً عليّ بالتالي أن أقفز مثل (باباي) – بعد تناوله للسبانخ – في قفزة خرافية، كي أعبر كل حواجز أبطالي الوهميين وصراعاتهم التافهة مقارنة مع سؤال ملح يفرض حضوره منذ الصباح، كي أجد علاقة منطقية تجمع بين السمكة والديناصور. في لمحة بصر أصير على الضفة الأخرى لأجد إجابات مقنعة عن أسئلة سريالية وموحية في آن واحد. أقف بجوار النينجا توريتلز، وتوم أند جيري، أتسامر مع سالي الطفلة اليتيمة، حتى صرت أتابع حكايتها بشغف.وفي كثير من المرات أضبط نفسي أردد عبارة الماركيز دو ساد :
” كل النعم تأتي من المخيلة”. فأشكر الله على سعة خيالي وصبري.
تمكنت بعد جهد، وعراك مرير مع الكسل والحاجة للنوم، من تسوير ساعات الصباح حماية لوقتي من الطامعين بكل خيراته. خطة بداية اليوم تلك بدت لي ألمعية بعد أشهر من الكآبة مضت بلا قراءة ولا كتابة بسبب استباحة الوقت. يمضي اليوم وأنا مستنزفة بلا طائل ثم أنام مثل كينغارو فقد جيبه، كنت أضع في ذاك الجيب القصص والروايات والأغنيات التي تُعين على متابعة الحياة، لكن فجأة صرت بلا جيب. ليس ثمة من يستمع لشكواي لو قلت أني أريد ساعات للقراءة أو الكتابة، سيبدو الأمر ضرباً من الهذيان. كان علي إيجاد حلول واقعية وفعالة؛ وفي الوقت ذاته تمرنت على إقامة حواجز لا يمكن النفاذ عبرها إلا في اختراقات يقوم بها ابني، وأتجاوب معها ضعفاً أمام عاطفة الأمومة، فيكون عليّ مثلاً فض النزاع بين ابني وابن الجيران حول الاختيار بين قناة «سبيستون» أو «أم بي سي 3»، أو أن أتقمص شخصية السندباد، أو الأميرة المسحورة ياسمينة، تبديداً لحالات الملل الكثيرة التي تنتاب ابني.
وإذا كانت الأمومة غريزة نسائية، فإنها مثل سائر الغرائز البشرية تتفاوت نسبتها، أعترف أن الطبيعة لم تمنحني فائضاً أمومياً يُمكنني من رعاية الأطفال من دون طرح أسئلة مربكة عن العلاقة البيولوجية والاجتماعية بين الأم والطفل. أما المراوحة بين الكتابة والأمومة فذاك صراع آخر يجعلني أحيد عن قراءة الأدب نحو كتب على نسق
“تهدئة الطفل الانفعالي”؛ كما لزم لتعلم الصبر اتباع مسار كاتبات يعلين من الشأن الأسري مثل إيزابيل اللندي التي ترى “أن العائلة تأخذ منا فرديتنا لتمنحنا الرفقة والأمان”.
في المطبخ، من الممكن إعداد طاجن الدجاج المغربي بالزيتون الأخضر، مع سماعات « الريل بلاير» التي أضع عليها دروس اللغة، أو أغنيات إسبانية لسيزارا ايفورا، هكذا تستمر الحركة بين عالمين، يدان تطهو، وأذنان تنشغل بلحن مثير، في انسجام نادر بين شرائح الليمون وأغنية ايفورا:
«BESAME MUCHO»
وتترجم حرفياً في الأغنية “قبلني كثيراً هذا المساء”
ولأني أنسى غالباً إن كنت وضعت الملح أم لا، ولست من هواة تذوق الطعام خلال إعداده، فقد سرت على نهج وضع ذرات قليلة من الملح والبهارات، ففي حال كنت أكرر الفعل مرتين فلن يكون هناك ضرر، وفي حال لا، سوف تكون زيادة الملح غير مدمرة للوجبة. كلها تدابير ضرورية للتحرك بسلاسة بين عوالم مختلفة لكل منها ثقوب يمكن النفاذ عبرها بكلمات سحرية.
“آبرا كادابرا…آبرا كادابرا” أشكر الله أن لدي جسداً غير مرئي، قادراً على عبور كل الحيطان العالية، والنفاذ عبرها إلى الغرف التي أريد من دون أن يحس أحد بتحولاتي. وإلا كيف أستطيع عبور كل هذه الأسوار.
تُسهل معرفة الأشخاص اختيار نوعية الجدر أو طبيعتها التي ستتشكل بيننا. وإذا كان ممكنا الحديث مع أمي عن حالات الكآبة، والعجز عن كتابة أي حرف، فإنها تتفهم الأمر برحابة صدر وتفاؤل لطيف؛ لكن يستحيل أن أبوح لوالدة زوجي سوى بمشكلة واقعية فيها حكاية وأشخاص تعرفهم، إذ لا يندرج في قاموسها المعرفي لفظ «الكآبة»، فهذا يعني نقص إيمان وحاجة إلى صلاة مكثفة نتيجة وسوسات الشيطان. في المقابل لا أخوض أمام أمي كثيراً حول آرائي المؤيدة للزواج المدني، ستسمع على مضض وتجادلني في ما يمكن أن يحدث للأطفال من تخلخل في المعتقد والهوية. وإذا قلت لها لم على الكبار احتمال معاناة فراقهم ! ترد عليّ بحكمة إغريقية فتذكرني بأن قدر الإنسان حمل صخرة سيزيف بشكل أو بآخر.
عند التعامل مع بعض الشخصيات- خاصة في الزيارات العائلية التي تحدث في المناسبات السارة- ينبغي عبور كل بيوت الأدب والفكر، والصمت أمام الفكرة الجذرية الأولى القائلة بأن المرأة مأخوذة من ضلع آدم، أو بعبارة مثقفة أن أثينا آلهة الحكمة جاءت من عقل زيوس. يتوجب التعامل مع مثل هذه الأفكار بحذر عند طرحها مع أو أمام الآخرين، والتنحي قليلاً وعدم الإيجاب لا بالرفض ولا بالقبول، كحل سلمي؛ أكثر صواباً من جدل سأخرج منه مهزومة بفعل كثرة عدد المحتجين.
لكن عبارة «ضرب عرض الحائط» تلهمني في كثير من الحالات، القيام بصدمات مفاجئة للآخرين، غير متوقعة مني، فالركون إلى الثوابت ليس ميزة رئيسية بي، لذا يظل العيش ضمن تكسير الحدود الفاصلة، وبناء الجدار وهدمه يحمل متعة كبيرة، تشق على من لم يبن جداراً أو يهدمه أن يفهمها.
لنا عبد الرحمن