البوسطجية لم يشتكوا
مازالت حكايا ساعي البريد، تجذب الاهتمام على الرغم من تراجع هذه المهنة، وتقلصها منذ أن سيطرت الرسائل الإلكترونية على تلك المكتوبة بخط اليد. الخبر الوارد في صحيفة “نيويورك تايمز” يقول أن أحد المواطنين الأميركين في ولاية كالفورنيا ويدعى (ريد تشيستر)،ويعمل ساعي بريد، قرر التقاعد من عمله بعد أن بلغ السابعة والتسعين من عمره، وقد أمضى في مهنته 37 عاما متواصلة، من دون أن يأخذ أي إجازة مرضية، ولعل الأكثر طرافة في الأمر أن ريد بدأ في مهنة ساعي بريد، بعد أن تقاعد من مهنته الأولى في السلاح الجوي الأميركي، أي بعد بلوغه الستين، وعلق على مهنة ساعي البريد بأنها أفضل مهنة عمل فيها في حياته، قائلا : ” أنا سعيد أني شاركت في وصول رسالة أو طرد بريدي يجلب السرور إلى قلب مستلمه”.
وإذا كان زمن المهنة 37 عاما، وعمر ساعي البريد 97 عاما، أمور تدعو للدهشة من حيث عشق هذا لرجل لمهنته، وتمتعه بالنشاط كي لا يتغيب ولو ليوم واحد عنها، فإن هذه التفاصيل ليست الحدث هنا بقدر التوقف عند ماهية فعل البوسطجي. لعل تاريخ ساعي البريد الأول، يسبق الفعل الإنساني إلى زمن الحمام الزاجل الذي كان وسيلة التواصل الذكية والبسيطة لنقل الرسائل الصغيرة، أما في الأشياء التي تتجاوز حجمها الرسالة،فكانت تحتاج إلى قافلة من الجمال أو الخيول للوصول إلى بلد المحبوب أو العدو،يسافر البريد غالبا مع قافلة من قوافل التجار التي ينفق البعض من خيولها وجمالها المساكين إذا كانت الرحلة مثلا بين الشام والمغرب، أو بين مصر والعراق . لكن الحياة التي تبدلت عبر القرون المتتالية جعلت الحمام الزاجل مع مرور الزمن ينقرض، كما توقفت القوافل عن العمل رحمة بالبشر و بالجمال والخيول، وجاء ” البريد” بأشكاله المتنوعة العادي، والسريع، والمضمون، ثم تفرع البريد إلى خدمات أخرى مثل ظهور شركات البريد الخاصة التي يتم عبرها تحويل الأشياء والأموال بين بلد وآخر، أو حتى بين قارة وأخرى لقاء ضريبة معينة، مرتفعة طبعا.
لكن في العودة للحديث عن الرسائل الملهمة_ التي كان ينتظرها العشاق بصبر_ وساعي البريد، الذي رافق الناس عقوداً طويلة من الزمن ودارت حوله قصص وحكايات، تبدو حكاية ساعي البريد الأميركي ذو 97 عاما، حكاية طريفة جدا، لأن ساعي البريد بدأ يختفي تدريجياً عندما أصبحت الرسالة تصل من دائرة البريد إلى الصناديق الخاصة بالزبائن، ولاحقا في زمن البريد الالكتروني، تقلصت جدا وظيفة ذاك الشريك المجهول، الذي يوصل الرسائل إلى بيوت الناس ماشيا على قدميه، أو مستعينا بدراجة هوائية.
ومع رحيل وانتهاء مهنة ساعي البريد، ستنقرض مهنة لطالما أوحت للأدباء والفنانين بكتابة نصوص بديعة، أو أغنيات الهدف منها مناجاة الحبيب الغائب. مازالت أغنية عبد الحليم حافظ ” جواب”، تحضر في أذهاننا بسبب صوت العندليب العذب، أما كلمات الأغنية فتبدو منتمية لزمن سابق بعيد عنا نسبيا.
أما فيلم “البوسطجي” وهو من أهم أفلام حسين كمال، فإنه يحكي عن عباس (شكري سرحان)، الشاب القادم من القاهرة لإستلام وظيفته كناظر لمكتب البريد في إحدى القرى في الصعيد. والفيلم يطرح عدة خطوط درامية منسجمة ومتداخلة، لكن أهمها حكاية الناظر عباس الذي يعيش في عزلة إجتماعية قاسية ومملة، فرضها عليه أهالي القرية. وفي عزلته هذه، يحاول كسر حدة الوحدة والملل ، فيلجأ الى فتح رسائل أهل القرية، يدفعه الى ذلك حرصه الشديد لمعرفة مايدور في هذه القرية، وتتكشف أمامه عوالم كثيرة لم يكن ليكتشفها أبدا.
أما الفيلم العالمي ” ساعي بريد نيرودا” الذي نال 18 جائزة أوسكار، واخرجه مايكل رادفورد بشاعرية وعاطفة مشحونة بالأمل فيحكي عن صياد شاب يقرر أن يهجر مهنته ليصبح ساعي بريد في ايسلانيغرا، إحدى قرى ايطاليا. وهناك يكون الشاعر التشيلي المنفي بابلو نيرودا هو الشخص الوحيد الذي يتلقى ويبعث الرسائل. يُعجب ساعي البريد الشاب بنيرودا، وينتظر بلهفة أن يكتب له الشاعر إهداء على أحد كتبه، أو أن يحدث شئ بينهما أكثر من مجرد تبادل الكلمات العابرة. تنشأ علاقة انسانية ضخمة بين الشاعر وساعي البريد، الذي يحفظ اشعاره ويستنسخها ويرسلها لحبيبته على أنه هو من كتبها، كما يقرأ الأشعار في تظاهرات الحزب الشيوعي الايطالي. تنفتح افاق انسانية كبيرة امام ساعي البريد الخجول، يتزوج حبيبته ، بتشجيع من نيرودا، ثم تتحسن الاوضاع في تشيلي ويغادر الشاعر المنفى ، ويصير ساعي البريد مسكوناً بخيالات الشاعر وينتظر رسالة منه.
تحمل شخصية ساعي البريد جواً من السرية، والخفاء، انتظار أمر مجهول، أو خبر مرتقب، أو حدث مرجو وقوعه، القصص التي كانت أبطالها الرسائل كثيرة جدا، لن تتمكن الحكايات المنسوجة حولها من أن تغطي تنوعها وغرابتها،وطرافتها أيضا. لكن “البوسطجية” لم يشتكوا من كثرة هذه الحكايات، بل من عدم الإكتراث بهم في هذا الزمن.
د. لنا عبد الرحمن