باريس .. صباح الخير

 

 

تتزاحم ظلال الأبطال في مخيلتي،وأنا أخمن أن همنغواي قد جال في هذه الشوارع الصغيرة ،المرصوفة بحجارة كبيرة  ومربعة،ربما كان يجلس في أحد الأماكن حين قال”إذا أتاك الحظ بما فيه الكفاية لتعيش في باريس وأنت شاب فإن ذكراها ستبقى في مخيلتك الى الأبد لأن باريس وليمة متنقلة”.

 

(1)

في فرنسا…باريس،شارع “السان ميشيل” ..

المكان مزدحم بوجوه من كل الالوان،أوربيون،عرب،أفارقة،آسيويون.المحلات تشرع ابوابها للزبائن،باعة الأنتيكات والتحف يعرضون بضائعهم بشكل جذاب يلفت الإنتباه،طاولات المقاهي صغيرة ومتقاربة تطل على الشارع و الجارسونات يختفون ويعودون في يدهم صينية لتقديم “القهوة” ، أو الشاي بنكهات الفواكه  المختلفة أو النعناع. يبوح الشارع ببعض خفاياه في انقسامه بين الشارع الرئيسي المطل على محطة ميترو “السان ميشيل” ومقهى “الرحيل” الذي يجاورها،  وبين  الأحياء الداخلية الاكثر ضيقا وسرية،حيث المطاعم والمقاهي العربية بين لبنانية ومصرية ومغربية،يسهل التمييز بينها فورا من قائمة الأطعمة المعروضة.

على بوابة إحدى المحلات خلف الزجاج الشفاف تبدو صواني البقلاوة والنمورة وقطع الملبن والكعك وأمام كل نوع إسمه بالعربية،لم يخطر في بالي أنني سأصادف هذه الأشياء في باريس،بجانب أحد الانواع وضعت كلمة”كعب الغزال”إنها نوع حلوى مغربية،أدخل للمحل أبادر بالكلام بالعربية رغم سؤاله لي بالفرنسية عما أريد،أجيبه بالعربية:”كعب الغزال”، أخمن أن لهجته من المغرب العربي،لا أستطيع التميز بين التونسية والجزائرية أسئله عن هويته يقول “من تونس”يسألني عن هويتي اجيبه”لبنان” يعلق قائلا:”نحنا نحبكم برشا برشا،ونحب نانسي عجرم” أشكر الله على وجود نانسي على هذا الكوكب لتسبب هذه المحبة والتآلف بين الشعوب العربية،وهنا تحديدا في قلب باريس.أهم بالمغادرة ومعي قطعة من كعب الغزال ثمنها يورو واحد، فيما سواح أوروبيين يقفون أمام الزجاج الخارجي ويتشاورون حول النوع الذي يختارونه.

أدلف الى قلب الشارع، ،تتزاحم ظلال الأبطال في مخيلتي،وأنا أخمن أن همنغواي قد جال في هذه الشوارع الصغيرة ،المرصوفة بحجارة كبيرة  ومربعة،ربما كان يجلس في أحد الأماكن حين قال”إذا أتاك الحظ بما فيه الكفاية لتعيش في باريس وأنت شاب فإن ذكراها ستبقى في مخيلتك الى الأبد لأن باريس وليمة متنقلة”. ،أحس بغصة لأنني لن أتمكن سوى من رؤية الأشياء بعيني فقط خلال إقامتي في باريس،لن يكون عندي الوقت لرؤية الحكايات أو لكتابتها،أحاول التجول في “السان ميشيل” أكثر من مرة أملي عيني من الأزقة الضيقة،من باعة الأرصفة الذين يعرضون بضائعهم  المكونة من لوحات تشكيلية من كل العصور وتذكارات باريسية مغرية.

أعبر الى الشارع الرئيسي بجوار التمثال الكبير في”السان ميشيل”الذي يشكل شلال ماء في ذات الوقت،أشاهد الكثير من الناس،وجوه ..وجوه..كلها متعطشة لرؤية باريس،رذاذ المطر يختلط مع المياه المتدفقة من الشلال فيما عاشقين يتبادلان قبلات صغيرة..لم يخمنا أن هناك من يرقبهما.ربما لو شاهدهما “أبولينيير” لما قال “لا الزمن يعود ولا الأحبة يرجعون”.

 

(2)

الشانزيليزية في الصباح :

إنها جادة  الشانزيليزية التي يقام فيها العرض العسكري السنوي، تخليدا لذكرى سقوط سجن الباستيل  في 14 يوليو 1892، وهى ككل ركن من أركان المدينة ذات تاريخ عريق، إلا أن المكان لم يأخذ إسمه الحالي قبل سنة 1709، وظل يعتبر حتى نهاية القرن الثامن عشر كمكان غير آمن ولا آهل… وحين قام البلاط بمنحه للمدينة عام 1828، تم رصفه وإضاءته بالمصابيح الغازية… ثم ولسبب غير واضح، إختارته المؤسسات التجارية مقرا لها، ليصبح مكان النزهة  المفضل للأرستقراطية الباريسية.

 

ليست  العلاقة مع هذا الشارع إحساسا بالدهشة  بقدر ما هي رغبة في الرؤية، والأكتشاف،في “الشانزيليزية” تتأكد أكثر من هويتك كسائح ينظر بعينين متسعتين وقلب مفتوح الى العوالم الرئيسية،”قوس النصر “عند  بداية الشارع، مقهى”فوكية” “مولان روج” الشهير،محلات “لوي فوتون”الفخمة.لكن بعد تجاوز هذه الأماكن التي ينبغي عليك رؤيتها بحكم شهرتها ،ستجد حديقة عامة على يمين الشارع،بمقاعد خشبية تحت الأشجار. أعبر من أمام بوابة الحديقة ،تلفت انتباهي فتاة محجبة برفقة شاب،أسئلها أن تلتقت لي صورة بجوار الحديقة ،تبتسم  وتأخذ الكاميرا مني،أسئلها عن بلدها،تقول لي قبل أن تبتعد “تركيا”.

 

(3)

فاتنة بجنون،غابة بولونيا صباح الاحد.

أسير في طرق الغابة المتعرجة،ساحره بغموض آسر يستمد ألقه من تمازج حكايا التاريخ.

لا يمكن لكل هذا الجمال الوحشي للطبيعة أن يكون صناعيا،لكن هذه هي الحقيقة.

هنا سارت الأميرات والفرسان ليختبؤا عن أعين الرقباء…..

هنا شهدت الغابة لحظات حب وقصص وله يائس،ونساء متزوجات يلتقين بعشاقهن سرا….يا لها من مكان آمن حقا….

إنها الغابة التي ظلت مخبأ للعصابات حتى عام 1556 الى أن قرر هنري الثاني إحاطتها بثمانية بوابات ،ثم وأثناء الثورة الفرنسية أصبحت من جديد المكان الآمن للمطاردين والفقراء وقطاع الطرق،وبحلول عام 1815 أقامت الجيوش الروسية والانكليزية معسكراتها فيها،وأفسدت مساحات ضخمة منها،لتظل متآكلة حتى تنازل نابليون الثالث عن الغابة للمدينة،وهدم السور المحيط بها أثناء إعادة التخطيط المعماري لباريس.

الان ..غابة بولونيا ذات وجهين….نهاري وليلي.

في النهار،وفي أيام الآحاد المشمسة تكون مكانا مناسبا للنزهات العائلية وللأحبة.

أما في الليل..فشارع الغابة الرئيسي والفسحات الأولية منها عنوان ثابت لفتيات الليل،حيث تراهن يرتدين الملابس الخفيفة جدا  رغم برد باريس القارص.

إنها باريس….مدينة الهواء النقي،والضجيج الهادئ…..

مدينة تعشق منذ اللحظات الاولى،وتشتاق إليها قبل مغادرتها

وداعا مدينة هوجو ..سارتر..وديبفوار.

  لنا عبد لرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى