أيام لندن

 

 

أقف في طابور طويل في المطار، أخمن أنه لن ينته وأني سأقف إلى الأبد هنا. أراقب وجوه الناس من حولي، يمكن القول أن كل أنواع الكائنات البشرية موجودة في هذه الطوابير، لذا كنت أنقل بصري بين جنسيات متعددة خلال لحظة واحدة، مراقبة تفاصيل الاختلافات بين البشر: شكل الجمجمة، لون البشرة والعينين، الشعر، شكل القامة. استوقفني مشهد ثلاث حاخامات، برفقة سيدة شقراء ضخمة،تجاوزت الخمسين من العمر تضع غطاء رأس تشبه ” البونيه” المصرية، بدت  سيدة يهودية متدينة، هذا ما سيتضح لي  بعد خروجي من المطار وحين سيستقبل الحاخامات والسيدة شاب صغير يبدو أنه ابن أحدهم، لذا سينحني لتقبيل يد والده في بهو المطار.

تنفرج الأزمة، واقترب من ضابط الجوازات الأسمر، الذي نظر إلى جواز السفر المصري، ثم سألني مازحا : ” لم لا أضع النقاب؟”. لم يقل كلمة ” نقاب”، بل أشار لي بيده نحو المرأة التي تقف على مقربة مني والتي لا يبين منها سوى العينين،  أوضحت له أن النقاب اختيار فردي عند النساء العربيات، لكنه بدا غير مقتنع تماما بإجابتي،ختم جواز سفري متمنيا لي وقتا طيبا. مضيت وأنا أفكر إن كان  كل ما هو معروف عنا النقاب فقط، فهذا جرم كبير في حقنا.

* * *

كنت وصلت لندن ، بدعوة من مؤسسة ” الحوار الإنساني” في إطار اهتمامهم بتقديم نماذج من كتابات المرأة  العربية، لذا  تمت استضافتي في ندوة لمناقشة روايتي ” أغنية لمارغريت”.وصلت في  يوم الأمسية إلى ” بيت السلام”  برفقة الصديقة الشاعرة ورود الموسوي ؛ التي تولت تقديمي للجمهور متحدثة عن انتاجي الأدبي وعن الرواية موضوع النقاش،معظم الحضور من العرب المقيمين في لندن، مع  وجود  بارز  للجالية العراقية.بدت الوجوه الحاضرة في الأمسية من الأسماء الثقافية المعروفة بنشاطاتها الأدبية والفكرية، ومن الأكاديميين، أو من المهتمين بمتابعة الشأن الثقافي، حيث أي نشاط ثقافي لكاتب عربي يحظى بنوع من الاهتمام، هذا ما يمكن ملاحظته للوهلة الأولى في عدد الحضور الذي يبدو مضاعفا ثلاث مرات عن أي ندوة ثقافية تقام في القاهرة.

ناقش الرواية الناقد العراقي عدنان حسين أحمد، متوقفا عند التفاصيل المحورية في النص، الذي  دفع الحضور في ختام الأمسية لطرح أسئلة دقيقة، فقد استثارت الرؤية النقدية شهيتهم لقراءة الرواية.

لكن ما استوقفني بخلاف الأمسية وما فيها من نقاش، الأسئلة التي وجهت لي  بعد الأمسية، عن” مصر”، وما يحدث فيها على أرض الواقع، لاحظت أن ثمة تشاؤم مستشري بين المهتمين بمتابعة الشأن المصري، ولعل السؤال الأبرز يمكن تلخيصه بعبارة : ” ماذا سيحصل في مصر بعد وصول الاسلاميين للسلطة؟ ”

هذا السؤال الذي ظل مفتوحا- وما يزال- على احتمالات شتى- حيث لم أتمكن بما أني لست محللة سياسية بل مراقبة أيضا-  من إعطاء إجابة وافية، مقنعة، فلا يمكن ضحضها بوجهة نظر مناقضة ؛ و لم يتوقف الحديث حول مصر، بل تفرع ليصل إلى سوريا،مع آراء جمعية تُشبه ما يحصل في سوريا بما حصل في العراق سابقا.

* * *

لم تكن لندن رحيمة معي ، فقد كان البرد  مفاجئا بالنسبة لي، فلم أكن مستعدة بالدرجة الكافية لمواجهة أمطار شديدة وبرد يدفع للارتعاش، لكن هذا كان حالي وحدي،  في مواجهة أمطار شهر يونيو،  فيما سكان مدينة الضباب يتعاملون مع الأمر بشكل عادي جدا.

جلست في البيت،أراقب من نافذتي التي تطل على “منتزه الهولاند بارك”، رجلا عجوز يرتدي ثيابا خفيفة ويمارس رياضة المشي بهمة الشباب من دون أن يخشى البرد، شاب وفتاة يسيران على الدراجة نحو قلب المنتزه، طابور طويل من الأطفال بدا لي أنهم جاءوا في رحلة مدرسية.عن هذا المكان كتب نزار قباني الكثير من قصائده، وإن بدا لي  أن المنتزه  ليس  في اتساع ” الهايد بارك”، إلا أن في هذا المنتزه الصغير نسبيا، شيء من الحميمية والألفة، تسمحان  برؤية  الأشخاص أكثر من مرة وتبادل الابتسامات معهم، لأن من يترددون عليه هم من سكان المنطقة في الغالب. تلك المشاهد جعلتني أتحمس للتجوال في المنتزه مثلهم، متجاهلة البرد، وما يمكن أن يفعله بي، هذا البرد الذي يدفعني للتفكير بالحر الرهيب في القاهرة، الذي كنت أشكو منه قبل أيام،فيما هنا الناس يبتهجون بالقليل من أشعة الشمس، وتدفعهم لمغادرة منازلهم. ولعل الملاحظة الأساسية في لندن أن الناس يبدأون صباحهم مع تتبع أخبار الطقس، وما إن كان ممطرا أو لا، كي يأخذوا معهم المظلات، ويحددوا نوعية الثياب التي سيرتدونها.

* * *

فرقة أندونيسية تعزف موسيقى تقليدية في ساحة ” ترافالغر سكوير” – أو ساحة ” الطرف الأغر” بالعربية – جاءت تسمية هذه الساحة بعد معركة ” طرف الغار” في قادش- جنوب غرب أسبانيا-  التي نشبت في  21 أكتوبر 1805 بين الأسطول الإنجليزي بقيادة الأميرال نيلسون ضد الأسطولين الفرنسي والأسباني المتحالفين. و تخليدًا لانتصار نيلسون  سُمِّي الميدان في لندن  باسم “طرف الغار” على اسم المعركة، وتم تحويرها لتصبح ” الطرف الأغر”.

في ” ترافلغر سكوير” يحط الحمام الأبيض بالقرب من النافورة الضخمة، يرف  بين الناس المزدحمين للجلوس على الأحجار، أو لالتقاط الصور، أو للاستماع للموسيقى، فنانون يمارسون العزف أو الرسم، وينتظرون هبات المارة. واذا كانت هذه الساحة، قد سميت  باسم معركة، فإن السينما العالمية والعربية  خلدتها  أيضا في تكرار المشاهد المصورة فيها.. بالإضافة إلى عظمة الساحة من حيث التشكيل المعماري، هنا أيضا تكون في قلب لندن، حيث ساعة ” بيغ بن” تواجهك بشموخ، فيما ” الناشيونال غاليري” في الجانب الأيمن،ومن هذا المكان يمكنك التوجه إلى كافة الأماكن المعروفة سياحيا، وفي هه الساحة تحدث التظاهرات، والاحتجاج على السياسات، وقد يداهم البوليس الساحة فجأة ليقوم باعتقال من يجب اعتقاله من وجهة نظرهم.

يمكن القول أن ” ترافالغر سكوير” من أشهر ساحات لندن، بل من أشهر الساحات في العالم، حيث ثمة سر خفي يجمع كل هؤلاء البشر ليرغبوا في زيارة هذا المكان، فتبدو الوجوه للرائي كما لو أنها تمر عبر شريط سينمائي يسجل كل هذه الضحكات والأحزان.

د. لنا عبد الرحمن 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى