هيلين بيروت
تقوم الأوديسة الملحمة الشعرية اليونانية التي وضعها هوميروس على حكاية ” هيلين” زوجة الأمبراطور التي هي أجمل نساء الأرض قاطبة، والتي يتسبب فرارها مع عشيقها باريس باندلاع حرب طروادة، وهي واحدة من أعظم حروبنا المتخيلة. تلك الحرب التي صنعت من طروادة حيزاً مفتوحاً على تأويل لا ينحصر في حصانها وحده، بل على المدينة، وعلى الخيانة، والحرب. الحرب الطويلة التي تشبه القدر.
هيلين طروادة، جعلتني أضع احتمالية وجود حكاية سرية لفرار هيلين أخرى تسبب لعنة التناحر والطائفية في بيروت؟ فما الذي يؤدي بزعماء هذا البلد الصغير للحياة باستمرار على حافة جبل من الدخان، سوى احساسهم أن الحروب لم تنته بعد.
إلى أي حد تغيرت بيروت عن الوقت الذي غادرتها فيه منذ أشهر الخريف؟ إلى أي حد تبدو الصورة قاتمة هذه الأيام، ويبدو كل ما في المدينة على وشك الإنفجار؟
أكرر أسئلة كثيرة على ذاتي مع كل لقاء مع بيروت، ومع كل نبأ جديد عن اضطراب الحال الأمنية. وفي كل محاولة للإجابة عنها أدخل نفقا معتما يؤدي بي الى حالة مؤلمة من التشاؤم. إنها بيروت مدينة البهجة، التي لا يوجد فيها سوى القلق. يعيش أهلها جذع عودة الحرب الأهلية، وهم يلمحون أشباحها تقترب وما من مغيث.
لذا تبدو كل محاولات التمويه أو نسيان الحال السياسي في بيروت الآن، مجرد محاولات مصطنعة،وهما افتراضيا لا يمكن التعامل معه على أنه حقيقة، لأن الحقيقة الوحيدة هي جسد المدينة المضطرب من هستيريا الخوف، من الموت المختبئ تحت الأرض ووراء الجدران. ففي المحلات ، المقاهي،الأماكن ، البيوت، التاكسيات، والشوارع يتحدث الناس عما سيحدث في الغد.يحملون في قلوبهم أمنيات تهجس بالحصول على الأمان.الأمان لا أكثر،والطمأنينة المرجوة والغائبة عن عالمهم منذ زمن صاروا لا يعرفون له بداية من نهاية.
إنها بيروت اذن…تعض على قلبي من كثرة الألم،تتوه مني فلا أعرفها،وكما لو أنني أراها من جديد، أتعرف اليها لأول مرة. الأماكن هي الأماكن،لم تتغير تحرض القادم على اقتحام عمق المدينة، قلبها،على الخطو الى الداخل،تجاوز العتبات والاقتراب من الواقع ،ثم ما أن يزحف المساء،وتقترب أول خيوط العتمة حتى تغلق المدينة أبوابها تنكفئ على نفسها حتى صباح آخر. وفي الصباح تتكرر الخطوات ذاتها،العبارات التي سمعناها من قبل،هناك حديث متشابه في كل مكان،ومن كل الوجوه،كلام عن المحكمة الدولية،عن الحكومة الغائبة،حديث مستفيض عن غلاء الأسعار والوضع الأقتصادي السيئ،ثم الخوف العصابي الراكن في العقل من هبوب رياح مجهولة،تتطيح بالأخضر واليابس. الخوف من اشتعال شرارة، من إنطلاق رصاصة تؤدي إلى سيناريوهات حروب الشوارع.
لا يمكنك أن تزور بيروت في هذه الأيام من دون أن تكسر قلبك الى نصفين،أو أنصاف أو أرباع متشظية، بحسب نشرات الأخبار وحسب انقسام السياسيين وتضارب مصالحهم،لا يمكنك أن تعزل نفسك في بيروت،لا يمكنك ابدا أن تنشغل بهمومك الذاتية فقط،لأنك ستكون جزء لا ينفصل عن النسيج العام،لا يمكنك الادعاء أنك لا تهتم بالسياسة،وأن ما يجري لن يؤثر عليك،لأن هذا سيكون محض ادعاء،رغم أن الناس اعتادت ما يرد في نشرات الأخبار،ولم تعد تندهش لسماع توتر جديد، أو تحول موقف سياسي ما من النقيض إلى النقيض. ورغم كل هذا يواصل الناس حياتهم بجرأة، بصلابة باتوا يتميزون بها، إنها صلابة من خاض الحروب والمعارك الكثيرة فأصابه الجلد، ويصير
القلق الذي يحتل مكانه في مساحة واسعة من القلب، أمرا واقعا لا بد من التعايش معه كي تمضي الأيام. لذا يحاولون دفعه بعيدا ليتابعوا حياتهم، ليقاوموا الغد المجهول، الذي لا يترك سوى ضباب يُدغش الرؤية.
د. لنا عبد الرحمن